الإخوان والقضية الفلسطينية 3 - فصل تمهيدي

بقلم: د/ صفوت حسين: كاتب ومحلل سياسي "بتصرف"

الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية

"1936 – 1949"

 

 

فصل تمهيدي

يُعتبر عامُ 1897م الميلادَ الرسميَّ للحركة الصهيونية كحركةٍ سياسية منظّمة وذلك حين عُقد مؤتمر "بال" بسويسرا برئاسة تيودور هرتزل، وقد شكّلَ هذا المؤتمرُ الميلادَ الرسميَّ للحركة الصهيونية.

إلا إنّ الفكرةَ الصهيونية أقدمُ من ذلك بكثير، حيث تعود إلى القرن السادس عشر، وقد نشأت الفكرة الصهيونية في أحضان الاستعمار الأوروبي خاصةً إنجلترا وفرنسا، وكذلك من خلال الصهيونية المسيحية أو غير اليهودية، وقد أدّتْ حركةُ الإصلاح الديني في القرن 16 إلى تغير النظرة إلى اليهود، وفكرة احتمال عودتهم إلى فلسطين، فقبْل حركة الإصلاح لم يكن هناك مكان لأية فكرة عن عودة اليهود إلى فلسطين، أو أي فكرة عن وجود الأمة اليهودية، وكان القساوسة الأوائل يرفضون التفسير الحرفي للتوراة، ويلجؤون للتفسيرات المجازية فيما يتعلق بالفقرات الواردة في التوراة، والتي تشير إلى عودة اليهود إلى وطنهم، وبصفة عامّة لم تكن أوروبا قبل عهد الإصلاح الديني تعتبر اليهود الشعبَ المختار الذي قُدّر له أن يعود للأرض المقدسة، وكان اليهود يُعتبرون مارقين، ويُوصمون بأنهم قتلةُ المسيح.

إلا أنّ المبادئ البروتستانتية التي وضعتها حركة الإصلاح الديني في القرن 16 أدّت إلى تغيير هذه النظرة، فقد رفضت البروتستانتية فكرة التفسير المجازي للتوراة، والذي قادهم للاعتقاد بتحقيق نبوءات عن عودة اليهود إلى فلسطين، وأنّ هذه العودةَ مقدِّمةٌ للاعتقاد بعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكةَ الله في الأرض والتي ستدوم ألفَ عام.

وقد ترتَّبَ على هذا الاعتقادِ ظهورُ العديد من الكتابات التي تتحدث عن بعْث اليهود وعودتهم إلى فلسطين في انجلترا وغيرها من الدول الأوربية، وهو الأمرُ الذي مهّد الطريقَ للأفكار الصهيونية عن الأمة اليهودية، وتعزيز فكرة العودة اليهودية إلى فلسطين1.

وكانت فرنسا أولَ من طرح بشكل جدي فكرة توطين اليهود في فلسطين، فقد أعدت حكومة الإدارة الفرنسية عام 1798م خطة سرية لإقامة "كومنولث يهودي في فلسطين"، حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي، وذلك مقابل تقديم الممولين اليهود قروضاً للحكومة الفرنسية، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية على مصر وأن يتعهد اليهود ببث الفوضى وإشعال الفتن وإحلال الأزمات في المناطق التي سيرتادها الجيش الفرنسي لتسهيل أمر احتلالها.

وكان أوَّلَ وعد يمنح لليهود، هو الوعدُ الذي منحه نابليون بونابرت عام 1799م أثناء حصاره لمدينة عكّا، والذي خاطب فيه اليهودَ بأنهم ورثةُ فلسطين الشرعيين ودعاهم لمؤازرته طالباً منهم العملَ على "إعادة احتلال وطنهم" وبالرغم من فشل مشروع نابليون إلا أنه أظهر بوضوح أنّ محاولات التوسع الاستعماري الغربي في الشرق العربي بعد نابليون، ستتخذ من مشاريع توطين اليهود في فلسطين ذريعة للتدخل في مصير هذا الجزء من العالم، والعمل على إيجاد كيان يهودي ليكون أداة لخدمة مصالح الاستعمار الغربي2.

وقد أصبح الوجودُ اليهودي في فلسطين خلال القرن 19 قضيةً سياسية بالنسبة للدول الأوربية التي كانت تصبو إلى التوسع فيما وراء البحار، وإقامة الإمبراطوريات، وأصبحت السلطاتُ الدينية والدنيوية تتاجر بالأفكار الصهيونية نظراً لجدواها المحتملة في الوضع السياسي السائد، وقد وَجدت فكرةُ توطين اليهود في فلسطين اهتماما كبيراً في بريطانيا خاصة مع محاولات محمد علي إقامة إمبراطورية عربية قوية، وهو الأمر الذي كان يتعارض مع السياسة البريطانية القائمة على المحافظة على ممتلكات الدول العثمانية.

وقد سعت بريطانيا لإيجاد طائفة تعتمد عليها في بلاد الشام وذلك لحماية مصالحها، وقد رأت في اليهود أقلية يمكن الاعتماد عليها في فلسطين، وقد قامت بريطانيا في يوليو 1838م بافتتاح أول قنصلية لها في القدس، وأَعلنت أنها أنشأت قنصليتَها بهدف رعاية مصالحها في فلسطين والتي من ضمنها " تقديم الحماية لليهود هناك عامّة".

يعتبر "بالمرستون" من أشد المتحمسين لفكرة توطين اليهود في فلسطين منذ توليه وزارة الخارجية عام 1830م وحتى بعد تسلمه رئاسة الوزراء فيما بعد، حيث عبر مراراً عن اعتقاده بأنّ بعْثَ الأمة اليهودية سيعطي القوة للسياسة الإنجليزية وقد مارس بالمرستون ضغوطاً شديدة على الدولة العثمانية للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي فيها، ففي أغسطس عام 1840م أرسل تعليمات إلى السفير البريطاني في الأستانة يدعوه فيها إلى حثِّ السلطان العثماني على السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وإقامة مستوطنات لهم فيها، وفي سبتمبر من نفس العام أرسل مرة أخرى للسفير البريطاني في الأستانة يدعوه لمتابعة طلبه للباب العالي بالسماح لليهود بالعودة إلى فلسطين وبالرغم من فشل بالمرستون في إقناع السلطان بالتخلي عن رفضه السماح لليهود بالهجرة الاستيطانية إلى فلسطين، فقد ظلت قضية توطين اليهود في فلسطين أحد أهداف السياسة البريطانية في الشرق العربي3.

وهكذا يتضح أنّ فكرة توطين اليهود في فلسطين، والعمل على إنشاء كيان لهم قد ظهرت ونمت في ظل الأطماع الاستعمارية خاصة من جانب فرنسا وبريطانيا، وإنْ كانت بريطانيا قد استطاعت أنْ تَحسِمَ الأمرَ لصالحها في عام 1917م بإصدار وعد بلفور.

أمّا على الجانب اليهودي فإنَّ فكرة الاستيطان في فلسطين قد بدأت بصورة جدية في أوسط الثلاثينيات من القرن 19، أمّا قبل ذلك التاريخ فالصلة بين اليهود وفلسطين كانت في غالبيتها مجرد صلة عاطفية4.

ويُعتبر تيودور هرتزل المؤسسَ الأول للصهيونية السياسية، وكان هرتزل قد أصدر عام 1896م كتابَه "الدولة اليهودية" والذي دعا فيه إلى تأسيس دولة لليهود وإنْ لم يحدِّد لها مكاناً معيناً، وإن اعتَبر فلسطينَ الوطنَ التاريخيَّ الذي تهفو إليه قلوبُ اليهود بشدّة وقد تمكّن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأوّل في مدينة "بال" بسويسرا عام 1897م، حيث تدارسَ المؤتمرُ موضوعَ إنشاء وطن قومي واستقر رأيُ الأغلبية على اختيار فلسطين، وعندئذٍ أطلق على حركة اليهود السياسية هذه اسم الحركة الصهيونية ربطاً لها بفلسطين وصهيون.

وقد حدد المؤتمرُ غايةَ الصهيونية في "إقامة وطن لليهود في فلسطين يعترف به القانون العام"، كما حدد المؤتمر وسائل تحقيق هذه الغاية عن طريق العمل على استعمار فلسطين بالعمال الزراعيين والصانعين اليهود وتنظيم الصهيونية العالمية وربطها بمنظمات محلية ودولية تتلاءَمُ مع القوانين المتّبعة في كل بلد، وتقوية الشعور والوعي القومي اليهودي وتغذيته، وبذْل المساعي من أجل كسب تأييد الحكومات لتحقيق أهداف الصهيونية وهكذا تبلورت الفكرةُ الصهيونية في هذا المؤتمر الذي أسس الصهيونية السياسية والذي دعا إلى إنشاء دولة خاصة باليهود في فلسطين يحتشدون فيها من أرجاء العالم، وبذلك انطلق المؤتمرُ في نظرته لليهود بأنهم يُشكّلون وحدةً دينية عنصرية، وأنهم شعبٌ بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأن اليهودية تُشكل قوميّة وليست ديانة.

وقد علّق هرتزل على أعمال مؤتمر بال قائلاً " لو أردتُ أن ألخص أعمال مؤتمر بال في كلمة واحدة – وهذا ما لم أقدم على الجهر به- لقلت: في مدينة بال أوجدت الدولة اليهودية.

ولو جهرت بذلك اليوم لقابلني العالم بالسخرية...... في غضون خمس سنوات ربما وفي غضون خمسين عاما بالتأكيد سيراها الجميع. إن الدولة قد تجسدت في إرادة الشعب لإقامتها"5.

لم تمض فترة وجيزة على المؤتمر الصهيوني في بال حتى تمَّ إنشاءُ العديد من المؤسسات والمنظمات بهدف تمويل عملية استعمار فلسطين وتنظيمها وربطها بالجهود الصهيونية الشاملة لتنفيذ أهداف مؤتمر بال، ووضعها موضع التنفيذ مثل المؤتمر الصهيوني واللجان الاستشارية والمصرف اليهودي للمستعمرات، ولجنة الاستعمار، والصندوق القومي اليهودي6.

لقد كان مؤتمر بال البداية الفعلية لتأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين، لكن من المهم التوقف عند دوافع هرتزل الحقيقية، فالبرغم من حديث هرتزل وغيره من الصهيونيين عن شعب الله المختار، وأنّ فلسطين الوطن القومي التاريخي لليهود، وأنّ منطقتنا "من النيل إلى الفرات"، فإن المحرك الأساسي للصهيونية هي الأهداف الاستعمارية، ولم يُخْفِ هرتزل –نفسه- أنّ الصهيونية السياسية كانت مشروعاً استعمارياً فيذكر: "إن مشروعي للاستعمار يحتاج إلى دراسة متعمقة" وأعلن هرتزل هدفه من الدولة الصهيونية أن تكون "حصنا متقدما للحضارة الغربية في مواجهة بربرية الشرق" وهناك العديد من النصوص والكتابات لهرتزل الذي تكشف حقيقة الصهيونية كمشروع استعماري وارتباطه بالاستعمار الغربي، ولذلك اتجه هرتزل إلى الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا لتسويق مشروعه الاستعماري، وإيضاح مزاياه في حماية مصالح هذه الدول.

ومن المهم الإشارة إلى أن المشروع الصهيوني لم يرتبط بإنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين سواء قبل مؤتمر بال أو بعد المؤتمر بعدة سنوات، وقبل أن يستقرَّ الأمرُ على ضرورة إنشاء الدولة الصهيونية في فلسطين، وقد حاولت الصهيونية إقامة العديد من المشاريع الاستيطانية في مناطق مختلفة من العالم مثل أرض مدين في شمال الحجاز، وفي سيناء والجبل الأخضر في ليبيا والبحرين والإحساء، وقبرص وأوغندا والأرجنتين وغيرها من المناطق.

لقد اتخذت الصهيونية من الأساطير الدينية وسيلة لخدمة أهدافها الاستعمارية، فعملت على توظيف هذه الأساطير، واستغلالها إلى أكبر حدٍّ ممكن لتحقيق مخططاتها، بالرغم من أن هرتزل مؤسسَ الصهيونية السياسية لم يكن متديناً، ويذكر في مذكراته أنه "مراعاة للدوافع الدينية فقد ذهبت إلى المعبد، يوم السبت قبل المؤتمر"7.

لقد جوبهت الصهيونية بمعارضة معظم الفئات اليهودية، ولم يكن اليهود بمجموعهم راغبين في الصهيونية ولم يؤمنوا بها، ويتضح من تحليل تيارات الهجرة اليهودية إلى فلسطين والتي بدأت عام 1882م أن توافد اليهود إلى فلسطين على مدى سبعين عاما كان متصلا بعوامل خارجية مثل اضطهاد اليهود في روسيا، والظروف الاقتصادية السيئة، وسياسة الإبادة الجماعية لليهود التي اتبعها النازيون في ألمانيا، أما الدعاية الصهيونية بين اليهود، ودعوتهم إلى العودة إلى أرض الأجداد فكانت أقلَّ العوامل التي ساعدت على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ويتضح ذلك من خلال إحصائيات الهجرة اليهودية، فخلال الفترة من 1881- 1931م هاجر إلى فلسطين 120 ألف يهودي فقط، أي أقل من عدد المهاجرين إلى أمريكا بـ 27 مرة8.

كان على هرتزل التحركُ لدى الدولة العثمانية صاحبة السيادة الشرعية على فلسطين للحصول على موافقتها على السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين، وقد بذل العديدَ من المحاولات مع الدولة العثمانية طوال الفترة من 1896م وحتى عام 1902م للحصول على موافقتها، إلا إنه اصطدم بمعارضة السلطان عبد الحميد (1876- 1909) القوية بالرغم من كل العروض التي قدمها هرتزل لمساعدة الدولة العثمانية ماليا وإنقاذها من الإفلاس.

لقد رأى السلطان عبد الحميد أنه إذا سمح لليهود بالتوطن في فلسطين فإنهم سيتمكنون في وقت قليل جداً من جمع وسائل القوة في أيديهم، وفي هذه الحالة: "نكون قد وقعنا قراراً بالموت على إخواننا في الدين" ويقصد بذلك فلسطين9.

والملاحَظ أن السلطان عبد الحميد قد وقف موقفا قوياً واضحاً منذ البداية من المحاولات الصهيونية فقد أعلن في يونيو 1896م وقبل عقد مؤتمر بال: "لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم وقد غذّوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا .... لا أستطيع أبداً أن أعطي أحداً أيَّ جزء منها...  ليحتفظ اليهود ببلايينهم فإذا قُسّمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل إنما لن تقسم إلا على جثثنا ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان"10.

وهكذا فشلت محاولات الصهيونية مع الدولة العثمانية، والتي أخذت تركز في تحقيق مشروعها الاستعماري الاستيطاني على بريطانيا وقد ساعدت الظروف الدولية على التقاء الطرفين لتحقيق المشروع الصهيوني، ففي بداية القرن العشرين بدأ المد الاستعماري لألمانيا يشكل قلقاً وتهديداً لبريطانيا، ورأت بريطانيا ضرورة إيجاد جبهة استعمارية موحدة لإيجاد نوع من التعاون بين كل الدول الاستعمارية، وتحاشي التنافس والصدام بينهما وبين الدول الاستعمارية الأخرى.

ومع وصول حزب الأحرار إلى الحكم في بريطانيا شكّل رئيسُ الوزراء البريطاني "كامبل بنرمان" لجنةً تشمل ممثلي الدول الاستعمارية ضمّت خبراءَ في التاريخ والاجتماع والاقتصاد والنفط والزراعة والاستعمار لدراسة أسباب انهيار الإمبراطوريات، وكيفية المحافظة على وضع الإمبراطوريات الاستعمارية القائمة والمحافظة عليها، وقد انتهت اللجنة إلى وضع خطة للمستقبل تضمنها تقرير اللجنة والذي عرف بتقرير كامبل وكان أهم ما تضمنه التقرير: أن الخطر على الإمبراطوريات الاستعمارية يكمن- في البحر المتوسط وفي شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص- حيث يعيش شعب واحد تتوافر له كل مقومات التجمع والاتحاد- وأن هذا التجمع لو تم فسيشكل ضربة قاضية للإمبراطوريات الاستعمارية، وقد انتهى التقرير إلى ضرورة درء هذا الخطر عن طريق فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئه الآسيوي، ولذلك اقترح التقريرُ إقامةَ حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أسيا بإفريقيا ويربطهما بالبحر المتوسط، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة11.

وقد وجد الطريق لتنفيذ هذا المخطط خلال الحرب العالمية الأولى، ففي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تقتحم فلسطين، كانت المفاوضات قائمةً على قدم وساق بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية، والتي تمخضت عن إصدار وعد بلفور نسبة إلى جيمس آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك في 2 نوفمبر 1917م، وقد جاء الوعد على شكل رسالة وجهها إلى اللورد روتشيلد الزعيم الصهيوني الكبير في بريطانيا، وجاء فيه "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم بوضوح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى".

لقد كان العاملُ الجوهري وراء إصدار هذا القرار مصالحَ بريطانيا الاستعمارية بالإضافة إلى عوامل أخرى فبلفور الذي كان يبدي عطفاً شديداً على الحركة الصهيونية هو نفسه الذي أصدر عام 1905 -عندما كان رئيساً للوزراء- قانونَ الهجرة الذي حدد بمقتضاه هجرات يهود شرق أوروبا إلى بريطانيا مبررا ذلك "بالخوف من الأخطار والشرور التي بدأت تتعرض لها بريطانيا من توافد المهاجرين الذين كانوا في غالبيتهم يهوداً"12.

لقد اتسمت سياسة بريطانيا بالخداع والنفاق والازدواجية، ففي الوقت الذي كانت تمنح فيه الحكوماتِ الصهيونيةَ هذا الوعد، كانت القوات العربية تقاتل إلى جانب بريطانيا ضد القوات التركية بناء على المراسلات التي تمت بين الشريف حسين بن علي شريف مكة والسير "آرثر مكماهون" المندوب السامي البريطاني في مصر خلال عامي 1915- 1916م والتي تعهدت فيها بريطانيا بالاعتراف بقيام دولة عربية مستقلة مقابل ثورة العرب ضد الترك، وقد طالب الشريف حسين بدولة عربية تشمل شبه جزيرة العرب (ماعدا عدن) وفلسطين وسوريا والعراق13.

وبالرغم من تحفظ بريطانيا على حدود الدولة العربية المقترحة إلا أن تحفظات بريطانيا لم تشمل فلسطين التي كانت داخلةً ضمن الحدود التي أقرت بها بريطانيا، وهو الأمر الذي أثبتته الوثائق بالرغم من ادعاء مكماهون – فيما بعد – أن فلسطين لم تكن ضمن حدود الدولة العربية المقترحة.

وفي إطار سياسة الاتفاقات والمعاهدات والتسويات لما بعد الحرب عقدت اتفاقية "سايكس- بيكو" بين بريطانيا وفرنسا لاقتسام أملاك الدولة العثمانية بين الدولتين في 16 مايو 1916م، وكانت هذه المعاهدة تمثل الجزءَ الخاصَّ التنفيذيَّ لمعاهدة "بطرسبرج" التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية خلال مارس 1916م، وقسّمت بمقتضاها أملاكَ الدولة العثمانية بين الدول الثلاثة.

وفيما يخص فلسطين فقد نص الاتفاق على منح بريطانيا مينائَيْ حيفا وعكا، وأنْ تكون بقيةُ فلسطين منطقةً تخضع لإدارةٍ دولية، وعلى الرغم من أنّ الصهيونيين قد اعتبروا أن اتفاقية "سايكس- بيكو" قد تجاهلتهم إلا أن هذا الاتفاق كان خطوة أولى لزحزحة فرنسا عن فلسطين تمهيداً لسيطرة بريطانيا وحدها عليها بعد أن يتم وضعها تحت إدارة دولية خاصة، وذلك بالاستعانة بالصهيونية15.

وهكذا مضت بريطانيا في سياسة الخداع، وعَقْدِ الاتفاقيات ومنح الوعود المتناقضة، والغريب هو استمرار الشريف حسين في حسن ظنه ببريطانيا، وانخداعه بالتفسيرات البريطانية لوعد بلفور ومعاهدة "سايكس –بيكو" بعد افتضاح أمرها بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا عام 1917م.

لقد كان تصريح بلفور هو الوثيقةُ التي أرست حجرَ الأساس في مأساة فلسطين، لذلك حرصت بريطانيا على إدراج وعد بلفور في جميع الوثائق الهامّة التي تتعلق بفلسطين، سواءً الوثائق ذات الصفة الدولية أو التي صدرت من المنظمات الدولية مثل عصبة الأمم أو الوثائق الدولية الخاصة بفلسطين15.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عَقَدَ الحلفاءُ مؤتمرَ الصلح في "فرساي" بفرنسا في يناير 1919م، وانتهى المؤتمر في يونيو 1919م بالتوقيع على ميثاق عصبة الأمم الذي تضمن معاهدات الصلح مع الدول المهزومة، وقد تنكر المؤتمر لكل مبادئ الحرية وحقوق الشعوب الذي كان ينادي بها الحلفاءُ أثناء الحرب، والتي اتَّضحَ أنَّها لم تكن إلا تصريحاتٍ للاستهلاك المحلي لضمان مساعدة الشعوب للحلفاء في الحرب، وقد اتَّضَحت المطامعُ الاستعمارية لدول الحلفاء من خلال المسمى الجديد للاستعمار وهو نظام الانتداب، والذي تضمنه ميثاقُ عصبة الأمم تحت زعم أن شعوبَ هذه البلاد التي فرضوا عليها الانتدابَ لا تزال غير قادرة على الوقوف وحدها في الحياة، وأنّ الطريقةَ المثلى للنهوض بهذه الشعوب أنْ يعهدوا بها إلى الأمم الراقية التي تمكنها مواردها وخيراتها من القيام بهذا العمل منتدبة عن عصبة الأمم.

وقد اعترفت المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم بأنَّ بعضَ الجماعات التي كانت تابعةً للامبراطوريات العثمانية قد بلغت من التقدم درجةً يمكن معها الاعتراف بها كأمم مستقلة على أن تتولى إبداء النصح والمشورة لها دولة منتدِبة، إلى أن يحين الوقت الذي تصبح هذه الجماعات قادرة على الوقوف بمفردها، وعلى أن يكون لرغائب هذه الجماعات اعتبارٌ رئيسي في الدولة المنتدِبة.

ولكن برغم ذلك فإن هذه المادة لم تجد طريقها للتنفيذ فقد اجتمع مجلس الحلفاء الأعلى في شكل مؤتمر في "سان ريمو" وقرر وضع كل من سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي وكل من العراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني دون مراعاة لرغبات شعوب هذه البلاد، وكان هذا الإجراء يتفق والتخطيطَ الاستعماري الصهيوني الذي تمخض عن التحالف بين الاستعمار البريطاني والصهيونية، فقد تركت بريطانيا سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي حتى تتمكن بريطانيا من السيطرة على مقدرات العراق وفلسطين، وحتى تستطيع أن تفيَ بوعدها للصهيونية في فلسطين.

وقد بحث مجلسُ الحلفاء الأعلى مشروع الانتداب على فلسطين وعرضت بريطانيا على عصبة الأمم المشروعَ كما وضعته المنظمة الصهيونية فأقرته عصبة الأمم في يوليو 1922م. ويتكون صكُّ الانتداب من مقدمةٍ وثمانٍ وعشرين مادة، وتنطق مقدمة الصك وبنوده بأهداف الاستعمار البريطاني في تنفيذ المخططات الصهيونية، وإنشاء الدولة الصهيونية كحاجز فاصل بين عربِ آسيا وعربِ أفريقيا عن طريق تمكين الصهاينة من فلسطين وتوفير كل السبل للسيطرة الصهيونية عليها.

فقد أشير في مقدمة الصك إلى وعد بلفور وموافقة دول الحلفاء على إنشاء الوطن القومي اليهودي، ومسؤولية الدولة المنتدبة في إنشاء هذا الوطن، ومن أهم مواد الميثاق التي تفضح مخططات تهويد فلسطين والتخلص من شعبها:

المادة الثانية:- تكون الدولة المنتدِبة مسؤولةً عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكْفل إنشاءَ الوطن اليهودي.

المادة الرابعة:- يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان واليهود في فلسطين ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد على أن يكون ذلك خاضعاً دوماً لمراقبة الإدارة.

المادة السادسة: على إدارة فلسطين- مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضْع فئات الأهالي الأخرى- أن تسهِّلَ هجرةَ اليهود في أحوال ملائمة وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية -المشار إليها في المادة الرابعة- حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية16.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ريجينا الشريف: الصهيونية غير اليهودية جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبد الله عبد العزيز، عالم المعرفة، الكويت، 1985، صفحات 24- 44 لمزيد من التفاصيل عن ميلاد الصهيونية المسيحية – انظر: رجاء جارودي: " فلسطين أرض الرسالات الإلهية "، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار التراث، القاهرة، 1986، ص 221- 245.

(2) أمين عبد الله محمود: مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عالم المعرفة، الكويت، 1984 ص 14- 16. ولمزيد من التفاصيل حول وعد نابليون لليهود انظر السيد فهمي الشناوي: " وعد نابليون لليهود سبق وعد بلفور بـ 118 سنة "، مجلة الدوحة، عدد 116، أغسطس 1985، ص 34- 37.

(3) أمين عبد الله محمود: المرجع المذكور، ص 17- 23. لمزيد من التفاصيل انظر- ريجينا الشريف-: المرجع المذكور، ص 116- 126. وانظر نص رسالة بالمرستون إلى السفير البريطاني في الأستانة بخصوص توطين اليهود في فلسطين بتاريخ 11 أغسطس 1840 ورسالة أخرى في فبراير 1841 في علي محمد علي: "ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية"، مركز دراسات الشرق الأوسط، وثيقة رقم 12 و13.

(4) أمين عبد الله محمود: المرجع المذكور، ص 57.

(5) محمود صالح منسي: تصريح بلفور، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970، ص 22- 24 محمود شيب خطاب: أهداف إسرائيل التوسعية في البلاد العربية، سلسلة البحوث الإسلامية، القاهرة، 1970، ص 12-14. "تيودور هرتزل" ولد في مدينة بودابست عام 1860 حيث درس في مدرسة يهودية ابتدائية ثم التحق بمدرسة ثانوية ثم انتقلت أسرته إلى فينيا حيث درس القانون، وقد اشتغل لبعض الوقت بالمحاماة ثم في الصحافة، وكتب عدة قصص ومسرحيات، وانتهى به تفكيره في المسألة اليهودية إلى إنشاء دولة صهيونية، ويعتبر مؤسس الصهيونية السياسية، وقد مات في يوليو 1904. انظر عصام شريح: هكذا تكلم هرتزل عن اليهود، مجلة الدوحة، عدد 97، يناير 1984.

كلمة "صهيونية" مشتقة من صهيون، وهو جبل يقع على المشارف الجنوبية لمدينة القدس القديمة، وقد وردت كلمة صهيون في التوراة عند التعرض للنبي "داود" الذي أسس مملكة إسرائيل وحكمها في الفترة من 1000 إلى 960 ق.م.

وقد ارتبطت صهيون بداود ومملكته وعاصمته فظلت صهيون في نظر اليهود رمزا لمجدهم. انظر حسن صبري الخولي سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن لعشرين، المجلد الأول، دار المعارف، القاهرة، 1873، ص5-6.

(6) محمود شيت خطاب: المرجع المذكور، ص 14.

(7) جارودي: المصر المذكور، ص 439- 454. عن مشروعات الاستيطان المختلفة، انظر: أمين عبد الله محمد: المرجع المذكور، ص 189- 238.

(8) رشاد عبد الله الشامي: الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية عالم المعرفة، الكويت، 1986، ص 83- 88.

(9) ليلى عبد اللطيف أحمد: موقف الدولة العثمانية من مطامع اليهود في فلسطين، دار الكتاب الجامعي، القاهرة، 1987، ص 37. وعن محاولات هرتزل مع الدولة العثمانية انظر أمين عبد الله محمود: المرجع المذكور 116- 174.

(10) علي محمد علي: المرجع المذكور، وثيقة 28.

(11) شفيق الرشيدات: فلسطين تاريخا وعبرة ومصيرا، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1968، ص 36- 45.

(12) عن وعد بلفور ودوافع إصداره، والنقد الموجه إليه. انظر: أمين عبد الله محمود، المرجع المذكور، ص 269- 272، ريجينا الشريف: المرجع المذكور، ص 172- 174، جارودي: المرجع المذكور، ص 334- 340، منسي: المرجع المذكور، ص 77- 107. وعن دور روتشيلد في دعم المخططات الصهيونية وإصدار وعد بلفور انظر السيد فهمي الشناوي: "قصة مليونير يهودي غامض"، مجلة الدوحة، عدد 111، مارس 1985.

(13) جورج كيرك: موجز تاريخ الشرق الأوسط من ظهور الإسلام إلى الوقت الحاضر، ترجمة عمر الأسكندري، القاهرة 1957، ص 193- 194، منسى: المرجع المذكور، ص 68 – 70، جارودى: المرجع المذكور، ص 342 – 346.

(14) محمد فيصل عبد المنعم: "فلسطين والغزو الصهيوني"، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1970، ص 70، منسي: المرجع المذكور، ص 74- 76، شفيق الرشيدات: المرجع المذكور، ص 64- 65، سميت الاتفاقيات باسم "سايكس – بيكو": نسبة إلى مارك سايكس ممثل بريطانيا في المفاوضات، وجورج بيكو ممثل فرنسا.

(15) حسن صبري الخولي: المرجع المذكور، مقدمة عبد العزيز الشناوي للكتاب ص 15.

(16) محمود صالح منسي: الشرق العربي المعاصر، القسم الأول الهلال الخصيب، القاهرة، 1990، ص 259- 261، شفيق الرشيدات: المرجع المذكور، ص 71- 85، انظر صك الانتداب في ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية، جـ1، وثيقة 100.


لا يوجد صور متاحة


مقالات أخرى قد تهمك