الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية - توطئة
الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية
"1936 – 1949"
مُقَدِّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
{لا يَسْتَوي الْقَاعِدونَ مِنَ الْمُؤمْنِينَ غَيْرُ أُولِي الضِّرَرِ والْمُجَاهِدِونَ في سَبيل اللهِ بأمْوَالِهمْ وَأنْفُسهمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدينَ بأمْوَالِهمْ وَأنْفسِهمْ على الْقاعِدينَ دَرجَةً وكُلاّ وَعد اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلى القاعدين أجْراً عظيماً، دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرة وَرَحْمَةّ وكان اللهُ غَفُوراً رَحيماً}.(النساء: 95 ، 96)
نشأت الحركة الصهيونية في أحضان الاستعمار الغربي، ووجدت في بريطانيا الملجأ والملاذ لتحقيق أهدافها، وقد عملت الحركة الصهيونية بدأب وإصرار على تحقيق أهدافها منذ مؤتمر بال عام 1897م مستغِلةً في ذلك احتضانَ الإمبراطورية البريطانية لها، وحالةَ الضعف التي كانت تعاني منها الدولةُ العثمانية صاحبةُ السيادة الشرعية على فلسطين.
وبالرّغم من كثرة الكتابات عن القضية الفلسطينية، واستحواذها على كثير من الأبحاث والدراسات إلا أنّه من الملاحظ أنَ هناك العديدَ من الكتابات والآراء الشائعة عن هذه القضية التي لم تستوعِب حقيقةَ الحركة الصهيونية، ويُمكن إجمالُ بعض الملاحظات عن هذه الكتابات والآراء فيما يلي:
1- تجاهل حقيقة الحركة الصهيونية كحركةٍ استعمارية نشأتْ مع ظهور الحركات القومية والاستعمار الأوروبي، وإن تستَّرتْ بمزاعم الحق التاريخي والديني لتُحقّق أطماعها الاستعمارية.
2- إنّ الحركة الصهيونية كانت أداةً في يد الاستعمار البريطاني لتحقيق أهدافه في المشرق العربي، وقد استمرّت هذه الأداةُ في يد بريطانيا حتى الحرب العالمية الثانية حين ولّت الحركةُ الصهيونية شطْرَ الولايات المتحدة الأمريكية القوةِ البازغة المتطلعة لوراثة الاستعمار القديم لتِضَع نفسَها في خدمة المصالح الأمريكية، وتقومَ بنفس الدور الذي قامت به في خدمة المصالح البريطانية، ولا يزال الكيانُ الصهيونيُّ يقوم بنفس الدور حتى الآن.
ومن المهمّ التوقّفُ في هذه النقطة حول حقيقة العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، إنَّ أكثرَ الآراء شيوعاً في عالمنا العربي تُرجِع التأييدَ الأمريكي القوي للكيان الصهيوني إلى قوة اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي داخل الولايات المتحدة بل تلجأ هذه الآراء إلى تصوير الإدارة الأمريكية وقد وقَفَتْ عاجزةً أمام الضغوط الصهيونية المتزايدة عليها، والتي تتعارضُ أحياناً مع المصالح الأمريكية ذاتها.
إنّ هذه الآراءَ تعطي للُّوبي الصهيوني قوةً كبيرة، وتعطي في نفس الوقت المبرِّرَ للإدارة الأمريكية لتبرير مواقفها المنحازة للكيان الصهيوني بحجة تعرضها للضغوط الصهيونية، وحاجتها للأصوات اليهودية.
إنَّ هذه الآراء تختزل هذه القضيةَ في عامل واحد، وتتجاهلُ حقيقةَ الحركة الصهيونية والوظيفة التي تقوم بها منذ إنشائها كأداة للدول الاستعمارية لتحقيق أهدافها، وهي الوظيفةُ التي يؤدّيها الكيانُ الصهيوني لمصلحة الولايات المتحدة في المنطقة، ولعلّ ما يبرز هذه الصورة بوضوح هي التساؤلاتُ التي ثارت داخلَ مراكز صُنع القرار الأمريكية حولَ أهمّية الكيان الصهيوني للمصالح الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكّك الاتحاد السوفيتي.
إنّ هذه التساؤلات في حد ذاتها تُوضّح الدورَ الذي يلعبُه الكيانُ الصهيونيّ ككلبِ حراسةٍ لخدمة المصالح الأمريكية.
ومن هنا يأتي الخطأُ في تصوير حقيقة العلاقة بين الكيان الصهيوني والولاياتِ المتحدة، والتركيز على قوّة اللُّوبي الصهيوني وتصوير الولايات المتحدة على أنّها رهينةٌ في يد اللوبي الصهيوني الذي يحركها لتحقيق مصالحه حتى لو تَعارضتْ مع مصالح الولايات المتحدة.
إنّ القوةَ التي يتمتَّع بها اللوبي الصهيوني تنبُع أساساً من حقيقة الدَّور الذي يلعبه الكيانُ الصهيوني في خدمة المصالح الأمريكية، وهو الدورُ الذي يعطي اللوبي المجال الخصب للتحرك والتأثير وإنْ كانت لغةُ المصالح هي الأساس التي تُوضِّح حقيقةَ العلاقة بين أمريكا والكيان الصهيوني فإنّ هذا بطبيعة الحال لا يعني تجاهلَ العوامل والمؤثرات الأخرى مثلَ دور اللوبي الصهيوني والصهيونية غير اليهودية والعوامل الثقافية وغيرها من المؤثرات الأخرى.
3- إنَّ الكثيرَ من الكتابات -وبصفةٍ خاصةٍ- من بعض المنتمين للاتجاه الإسلامي تتّسم بالمبالغة الشديدة، في الدَّور الذي يقوم به اليهودُ على مسرح الأحداث العالمية، والنَّظر إليهم باعتبارهم المحركَ الرئيسيَّ لهذه الأحداث، وهي نظرةٌ فيها مبالغةٌ شديدة فضلاً عن افتقادها الكثيرَ من المصداقية، وهناك الكثيرُ من الكتابات التي تنسبُ الكثيرَ من الأحداث العالمية لليهود كالثورة الفرنسية، والثورة الشيوعية والتي يُطلِقُ عليها البعضُ الثورةَ اليهودية، وانقلابِ حركة الاتحاد والترقي ضدَّ السلطان العثماني عبد الحميد الثاني 1908م، وهذه الكتابات تعطي دوراً كبيراً لليهود، وتخدم المخططات الصهيونية- دونَ قصدٍ في أغلب الأحوال- في خلْق هالةٍ من القوّة والنفوذ على اليهود، وإذا تأمّلنا هذه الأحداثَ بصفةٍ عامة نجد أنها نبعت من ظروف داخلية، وأن دور اليهود فيها لا يتعدى محاولة استغلال هذه الأحداث لتحقيق أهدافهم.
لقد استطاعت الحركةُ الصهيونية أنْ تكلِّل جهودَها بالنّجاح بالحصول على وعد بلفور عام 1917م، والذي كان حجرَ الأساسِ في إنشاء الكيان الصهيوني، وعملت بريطانيا من خلال انتدابها على فلسطين أنْ تُمكِّن للحركة الصهيونية، وأن تعمل بكل الوسائل على تهيئة الظروف لتأسيس الكيان الصهيوني، وفي الوقت الذي كانت تسير فيه المخططاتُ الصهيونية بنجاح كانت مصرُ تعاني من الاحتلال البريطاني، وكذلك النّزعة القومية التي كانت تتبناها الأحزاب والقوى السياسيّة المصريّة وعلى رأسها حزبُ الوفد، والتي تنطلقُ من شعار (مصر للمصريين) وعلى هذا الأساس لم تلقَ القضيةُ الفلسطينية الاهتمامَ الكافي على المستوى الرسمي إلا في مرحلةٍ متأخرة، وبعد توقيع مصر معاهدة 1936م وبصورةٍ لم تكنْ تزيد عن إبداء التعاطف مع عرب فلسطين.
أمّا على المستوى الشعبي فقد برز الاهتمامُ بالقضية الفلسطينية في مرحلة مبكّرة سواءً على مستوى الشخصيات العامّة، سواءً ذاتَ التوجُّه العربي أو الإسلامي، أو على مستوى الهيئات الإسلامية، وكان على رأس هذه الهيئات جماعةُ الإخوان المسلمين.
والمتتبّع للكتب والدراساتِ العديدة التي تحفلُ بها المكتبةُ العربية عن القضية الفلسطينية يُلاحظ قلةَ الدراسات التي تتعرض لدور الجماعات والهيئات الإسلامية في القضية الفلسطينية التي لم تنلْ الاهتمامَ إلا في مرحلة متأخرة ومن هذه الدراسات دراسةُ صلاح حسن المسلوت بعنوان (موقف التيار الإسلامي في مصر من القضية الفلسطينية) (1936- 1948) والتي تتناولُ موقفَ التيار الإسلامي من تطورات القضية الفلسطينية منذ ثورة 1936 حتى نكبة فلسطين، وقد عنَت الدراسةُ بموقف كافة القوى المُنطوية تحت مسمّى التيار الإسلامي وهي: الأزهر، والإخوان المسلمون، وجمعية الشبان المسلمين، وجماعة شباب محمد، وحزب مصر الفتاة من القضية الفلسطينية.
كما تناولَ إبراهيم البيومي غانم موقفَ الإخوان من القضية في أحد فصول دراسته للماجستير عن الفكر السياسي للإمام حسن البنا ، ويُعدُّ هذا الفصلُ دراسةً تطبيقية للفكر النّظري لحسن البنا الذي تناوله المؤلِّفُ بالتفصيل في دراسته.
كما تَناولَ عبد الفتاح محمد البيومي في دراسته "تصَوُّرَ الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية" الإطارَ الفكريَّ الذي دفع الإخوانَ للاهتمام الكبير بالقضية الفلسطينية.
وتنصَبُّ هذه الدراسةُ على دراسة موقف الإخوان من القضية الفلسطينية في الفترة من 1936م حتى 1949م، بالرّغم مِنْ أنَّ اهتمام الإخوانِ المسلمين بَدَأَ قبلَ عامِ 1936م، بل يُمكِن القولُ إنَّ هذا الاهتمامَ بدأ من جانب حسن البنا مؤسِّسِ الجماعة قبلَ تأسيسها عام 1928م ، ولكنْ آثَرْتُ تحديدَ فترة الدراسة بدايةً من عام 1936م، وهو العامُ الذي اندلعَتْ فيه الثورةُ في فلسطين والتي امتدَّتْ حتى عام 1939م، لأنَّ هذه الثورةَ فرَضَتْ نفسَها على الساحة العربية واستقطَبَت الأضواءَ، وأبرَزَتْ موقفَ الإخوان بجلاءٍ ووضوح سواءً على الجانب النّظري أو التطبيقي من القضية الفلسطينية.
والمُلاحَظ أنّ معظمَ الدراسات التي تناولَتْ موقفَ الإخوان من القضية الفلسطينية سواءً بالتّفصيل أو عرْضاً قد انصبَّتْ على الإشادة بمواقف الإخوان، والإشارةِ إلى دورهم في إرسال المتطوعين إلى الحرب عام 1948م، وهو ما نُلاحِظه في الجانب الحربي، ومَرَّتْ مروراً عابراً على جهود الإخوان في مناصرة القضية الفلسطينية منذ نشأة الجماعة حتى فترة ما قبلَ الحرب.
وفي اعتقادي أنَّ الجهاد السياسي والإعلامي والدبلوماسي الذي قام به الإخوان في الفترة من 1936م إلى 1939م لا يقِلُّ في الأهمية عن الجهاد الحربي للإخوان عام 1948م، وإنَّ ثورةَ 1936م- 1939م مثَّلَت الأساسَ والركيزةَ لانطلاق متطوعي الإخوان إلى فلسطين عام 1948م.
لقد انقسَمَ دورُ الإخوان في القضية الفلسطينية إلى مرحلتين أساسيتين:
المرحلةِ الأولى: تمتدُّ من 1936م-1939م، وتركَّزَتْ على الجانب السياسي والإعلامي.
المرحلةِ الثانية: مِنْ 1945م-1949م، وتركَّزَتْ على الجانب الحربي بالإضافة إلى الجوانب الأخرى.
لقد رَكَّزَ الإخوانُ في المرحلة الأولى على العمل على إيجاد رأيٍ عامٍّ مُناصر للقضية الفلسطينية خاصةً في ظل السلبية واللامبالاة السائدة على المستوى الرسمي تجاهَ هذه القضية نتيجةَ التركيز على قضية الجلاء، وكذلك النظرة القومية الضيقة والتي ركَّزَتْ على القضايا المصرية، وقد كانت جهودُ الإخوان عاملاً رئيسياً في الاهتمام بهذه القضية، وتنميةَ التوجُّهِ العربيِّ في مصر، وقد كانت سرعةُ انتشار الإخوان في مصر واكتسابهم المزيدَ من الأعضاء وافتتاحِ المزيد من الشُعَبِ عاملاً رئيسياً في تركيز الأضواء على هذه القضية وعدم قَصْرها على العاصمة أو المنتديات والمؤتمرات الثقافية.
أمَّا المرحلةُ الثانيةُ 1945م-1949م، فبالإضافة للجهود السياسية والإعلامية فقد ركّز الإخوانُ على الجانب العسكري وتمثل ذلك في مساعدة الفلسطينيين على جَمْعِ السلاح مِنْ مُخلَّفات جيوش الحلفاء في الصحراء الغربية، وشراء الأسلحة من التجار، ثمّ كان الدورُ الأكبرُ للإخوان في إرسال المتطوعين إلى فلسطين عام 1948م.
يتبع....