الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية 6 - رؤية الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية

بقلم: د/ صفوت حسين: كاتب ومحلل سياسي "بتصرف"

الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية

"1936 – 1949"

 

 

الفصل الأول: رؤية الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية

 

" فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام وباعتبارها مهد الأنبياء وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله " حسن البنا

" إن قيام دولة يهودية على حدود مصر الشرقية لتهددنا في كياننا وفي استقلالنا وفي تجارتنا وفي أخلاقنا وفضائلنا" صالح عشماوي

رؤية الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية

اهتمَّ الإخوانُ المسلمون اهتماماً كبيراً بالقضية الفلسطينية، ولعِبوا دوراً كبيراً في دعم هذه القضية بكافة الوسائل والأساليب ابتداءً من التوعية والدعاية وانتهاءً بالقتال الفعليّ على أرض فلسطين.

ولا يمكِنُ التطرُّقُ إلى دور الإخوان وجهودهم في سبيل القضية الفلسطينية دون التعرُّض لرؤيتهم حولَ هذه القضية، التي توضِّح المنطلقاتِ الفكريةَ التي دَفَعَت الإخوانَ للاهتمام بها.

عواملُ اهتمام الإخوان المسلمين بالقضية الفلسطينية:

أولا: المنطلقات الفكرية والسياسية للإخوان المسلمين: ويأتي على رأس هذه المنطلقات، الذي يُمثل أحدَ ثوابت الجماعة مفهومُ الوطن أو الأمة عند الإخوان فقد رفَضَ الإخوانُ المفهومَ الضيِّق للوطنية، والذي يَحصُرها في نطاق التخوم الأرضية والحدود الوطنية، حيث اعتَبر الإخوانُ أنَّ حدودَ الوطنية العقيدةُ وليست الحدودَ الجغرافية، وقد أكَّد على هذا المعنى مراراً الشيخُ حسن البنا في رسائله ومقالاته: "إنّنا نعتبر حدودَ الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكلُّ بقعة فيها مسلمٌ يقول لا اله إلا الله محمد رسول الله وطنٌ عندنا له حرمتُه وقداستُه وحبُّه والإخلاصُ له والجهاد في سبيل خيره، كلُّ المسلمين عندنا في هذه الأقطار الجغرافية أهلُنا وإخواننا نهتَمُّ لهُمْ ونشعر بشعورهم ونحسُّ بإحساسهم".

فالإسلام في نظر حسن البنا: "لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفوارقَ الجنسية الدموية، ويَعتبرُ المسلمين جميعا أُمَّةً واحدة، والوطنَ الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعَدَتْ أقطارُه وتناءَتْ حدودُه، وكذلك الإخوان المسلمون يقدِّمون هذه الوحدةَ ويؤمنون بهذه الجماعة ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز إخوة الإسلام، وينادون بأنَّ وطنَهم هو كلُّ شبرِ أرضٍ فيه مسلمٌ يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله"1.

وإذا كان حسنُ البنا قد رفض فكرة الوطنية بالمفهوم الضيّق الذي يَحصرها داخلَ حدود التخوم الجغرافية إلا أنّه أكّد على المعاني الإيجابية للوطنية كحبِّ الوطن والعملِ على تحريره واستقلاله، وتقويةِ الروابط بين أفراد الوطن.

ويوضِّحُ حسنُ البنا موقفَ الإخوان من الوحدة القومية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية، ويرُدُّ على الذين يُوَجِّهون الانتقاداتِ للإخوان معتبرين تَمَسُّكَهم بالفكرة الإسلامية مانعاً لهم مِنَ الإخلاص للناحية الوطنية فيَذْكر أنَّ الإسلامَ قد فرض على كلِّ إنسان أن يعملَ لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأنْ يخدمَ الوطنَ الذي نشَأَ فيه، وأنَّ المسلمَ أعمقُ الناس وطنيةً وأعظمُهم نفعاً لمواطنيه، وأنَّ الإخوان المسلمين أشدُّ الناس حرصاً على خير وطنهم "فالمصرية أو القومية لها في دعوتنا مكانُها ومنزلتها وحقُّها في الكفاح والنّضال، إنّنا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نَبَتْنا فيها ونشَأْنا عليها... وكيف يُقال إنَّ الإيمانَ بالمصرية لا يتَّفِقُ مع ما يجب أنْ يدعوَ إليه رجلٌ ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام، إنّنا نعتزُّ بأنّنا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره... إنّنا حين نعملُ لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام"2.

فحَسَنُ البنا يَعتبر انتماءَ الإنسان لوطنه الذي نشأ فيه والإخلاصَ له الحلقةَ الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، ثم ينتقل للحلقة الثانية وهي الوحدة العربية فيَذْكُرُ أنَّ الإسلامَ نشأ عربياً ووصل إلى الأمم عن طريق العرب وأنَّ القرآن نزل بلسان عربي مبين، وأنّه كما جاء في الأثر "إنه إذا ذلَّ العرب ذَلَّ الإسلام"، وأنّ هذا المعنى قد أكّدتْه أحداثُ التاريخ وأنّ العرب هُم، "عصبة الإسلام وحرسه".

كما نبَّهَ حسنُ البنا إلى أنّ الإخوان يعتبرون العروبة اللسانَ؛ كما جاء في الحديث "ألا إنّ العربيةَ اللسانُ، ألا إنّ العربية اللسان" ويرى أنّ وحدةَ العرب أمرٌ لا بُدَّ منه لإعادة مجد الإسلام "ومِنْ هنا وَجَبَ على كلّ مسلم أن يعملَ لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها وهذا هو موقفُ الإخوان المسلمين من الوحدة العربية"3.

ثم ينتقلُ حسنُ البنا إلى الحلقة الثالثة فيؤكّد على أنّ الإسلامَ "يَعتبر المسلمين جميعاً أمّةً واحدة، ويَعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً"4.

فالانتماءُ السياسيُّ لدى الإخوان يقومُ على ثلاثِ حلقات: الحلقةِ الأولى الانتماء الوطني الإقليمي، ثمَّ الحلقةِ الثانية الانتماء للوحدة العربية، ثُمَّ الحلقةِ الثالثة الانتماء للوحدة الإسلامية، ويُوضِّحُ حسنُ البنا حدودَ الوطن في نظر الإخوان؛ فيَقْسِمُ الوطنَ إلى الوطن الصغير والكبير والأكبر، ويقصد بالوطن الصغير وادي النيل بشماله وجنوبه وأنّه يعتبر مصرَ هي السودانُ الشمالي والسودان هي مصرُ الجنوبية.

أمّا الوطن الكبير فيَقصد به حسنُ البنا الوطنَ العربيَّ ويحدِّده بأنّه من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، أمّا الوطن الأكبر فهو الوطن الإسلامي أو من جاكرتا على المحيط الهادي إلى رباط الفتح على المحيط الأطلسي"5.

ولا يرى حسنُ البنّا تعارضاً بين هذه الحلقات، وأنها تُكَمِّل بعضَها البعض، وتُحَقِّق الغايةَ منها، ومِن الواضح أنّ هذا التصورَ صحيحٌ في ضوء المعنى الذي حدَّده حسن البنا لمفاهيم القومية والوحدة العربية فهو قد جرّد هذه المفاهيمَ مِن المعاني السلبية التي كان مِن الممكن أنْ تُوجِد تعارضاً بينها، فقد نَبَذَ كلَّ معاني التعصّب التي تحملها هذه المفاهيم حسب رؤية الآخرين لها.

بل نجدُ حسنَ البنّا لا يقف عند حدود هذه الحلقات الثلاث؛ بل يذهب إلى أنّ الإخوانَ "ينادون بالوحدة العالمية: هذا هو مرمى الإسلام وهدفُه ومعنى قولِ الله تبارك وتعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}"6.

فحدودُ الوطنية عند الإخوان تقوم على أساس العقيدة ويَدعم هذا التصوّرَ لديهم مفهومُ الإخوة الإسلامي، فالكثيرُ من الآيات والأحاديث ناطقةٌ بهذه الإخوة، وهذا الرباط الوثيق الذي يجمع بين المسلمين في كافة أنحاء الأرض بصرف النّظر عن جنسهم أو لونهم يقول تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}.

وقد شَبَّهَ الرسولُ عليه السلام المسلمين بالجسد الواحد فقال عليه السلام: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري ومسلم.

ويُمكن القولُ بأنّ مفهومَ الإخوان للأمّة الإسلامية كان عاملاً حاسماً وأساسياً في مناصرة الإخوان لقضايا العالم الإسلامي على امتداد هذا العالم، وقد تعدَّدتْ وسائلُ الإخوان في مناصرة هذه القضايا7.

وإذا طبّقْنا هذا المفهومَ على القضية الفلسطينية لوجدنا الكثيرَ من كتابات الإخوان -التي تناوَلَتْ هذه القضيةَ- قد ركَّزتْ على هذا المعنى، وإنْ كان من المهم الإشارةُ إلى أنّه برغم أهمّية نظرة الجماعة للأمة الإسلامية في تأييد القضية الفلسطينية إلا أنّ هناك عواملَ أخرى متعددة- كما سنرى- قد عمِلَتْ على تأكيد وترسيخ هذا الدعم والتأييد من جانب الإخوان للقضية الفلسطينية.

فقد أكّدَ حسنُ البنا في خطابٍ إلى السفير البريطاني في القاهرة على "أنّ قضيةَ فلسطين قضيةُ كلِّ مسلم"، وتؤكّد جريدةُ الإخوان المسلمين على أنَّ "فلسطين قطعةٌ من الجسد الإسلامي العامّ، ولبِنة قيّمةٌ من بنيان الكيان الإسلامي فكلُّ قطعة لا تتألم لألم فلسطين ليست مِنْ هذا الجسد، وكلُّ لَبِنةٍ لا تختلُّ لاختلال فلسطين فليست من هذا البنيان".

ويؤكّد الإخوانُ أنّ مسالةَ فلسطين تخصُّ سائرَ الأمم الإسلامية جميعاً، وليس الفلسطينيون وحدَهم كما قد يَظن البعضُ؛ ففلسطين "جرح دامٍ في وطننا الإسلامي الذي كُلِّفْنا من قِبَل الله بالمحافظة عليه؛ إذ كلُّ شبر من الأرض فيه إنسانٌ يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله وطنٌ للمسلمين جميعاً".

ويؤكّد عبد الرحمن الساعاتي (شقيقُ حسن البنا ) على أنّ فلسطين تعنينا وأنَّ "مَنْ قال غيرَ ذلك فليس بمسلم ولا عربي؛ إذ المسلمُ للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً، والعربيُّ لا تكون صلته بذوي رَحمه وقرباه تجافياً ولا نقضاً، والإسلام والعروبة لازِمان لا يفترقان، وكلمتان يحدّد معناهما الإسلامُ بأنّه البلادُ التي تَحُدُّها كلمةُ التوحيد الخالصةُ وليس هو ما يعرف حدودَه الجغرافيون بمواقع جهات اليابس والماء"8.

ولعلّ هذه الكتابات المختلفة لبعض الإخوان تؤكّد على العامل المهم الذي لعبه مفهومُ الأمة الإسلامية في موقف الإخوان من القضية الفلسطينية، وهو المفهوم الذي كان يتعارض مع مفهوم الوطنية بالمعنى الضيق الذي كانت تعتنقه الأحزابُ السياسية في ذلك الوقت وعلى رأسها حزبُ الأغلبية الوفد، والذي لا يتعدّى حدودَ مصر الجغرافية.

ولعلَّ ما يوضِّح رسوخَ هذا المفهوم لدى الإخوان المسلمين، وغرابته بالنسبة لغيرهم ما أورده عباس السيسي من تحقيقِ وكيلِ النيابة معه ومع بعض الإخوان بعد قيامهم بمظاهرة في رشيد عام 1938م تأييداً لقضية فلسطين واحتجاجاً على تصريح رئيس الوزراء المصري الذي جاء فيه: "أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيساً لوزراء فلسطين".

فقد سأل وكيلُ النيابة أحدَ الإخوان ويعمل صياداً: "ما لَكَ وما لفلسطين؟ دي دولة واحنا دولة؟" فكان الردّ أنّ فلسطين دولة عربية، ومسلمون تربطنا بهم صلة الجوار، وصلة الإسلام، والقرآن يقول لنا: {إنما المؤمنون إخوة}.

وعندما سُئل طالبٌ آخرُ من الإخوان عمَّن أصدر إليه الأمرَ بعمل مظاهرة لفلسطين؟ أجاب بأن الإسلام يأمرنا بالتعاون والتساند ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لنا: "من لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم"، وعندما عاد وكيلُ النيابة وذَكَر له أنّ فلسطينَ دولةٌ غيرُ دولتنا ولا يعنينا أمرُهم، أجاب بأنّ فلسطين جارةٌ لنا وهي أقرب إلينا من أسوان ولا بُدَّ من الاهتمام بأمر الجار خوفاً من أن يجاورنا اليهود الذين حذرنا الله منهم.

وقد أكّد عباسُ السيسي على ذات المعاني عندما سئل عن أسباب قيامهم بالمظاهرة فأكّد أنهم قاموا بها تأييداً لكفاح شعب فلسطين المسلم حيث إنّ عقيدةَ المسلم تفرض عليه مساعدة أخيه المسلم أينما كان9.

ومن المفاهيم التي جَعلت الإخوانَ يُولُون اهتماماً كبيراً للقضية الفلسطينية مفهومُ الجهاد، وقد أولى حسنُ البنا مفهومَ الجهاد اهتماماً كبيراً وجعله الركنَ الرابعَ مِنْ أركان البيعة العشرة: "وأريد بالجهاد: الفريضةَ الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغْزُ ولم ينْوِ الغزوَ مات ميتةَ الجاهلية " وأول مراتبه إنكار القلب وأعلاها القتال في سبيل الله"10.

وقد أفْرَدَ حسنُ البنا رسالةً عن الجهاد أوضَحَ فيها فرضيتَه وثوابَ المجاهدين والشهداء، وأورَدَ الكثيرَ من آيات الجهاد في القرآن والسُّور التي تحدَّثتْ عن القتال وساقَ أكثرَ من ثلاثين حديثاً وأوضَحَ حُكمَ الجهاد عند الفقهاء وذَكَرَ: "إنّ الجهادَ فرضُ كفاية على الأمة الإسلامية لنشر الدعوة، وفرضُ عين لدفع هجوم الكفار عليها، والمسلمون الآن -كما تعلم- مستَذَلُّون لغيرهم محكومون بالكفار قد دِيست أرضُهم وانتُهكت حرماتُهم، وتحكَّمَ في شؤونهم خصومُهم وتعطَّلتْ شعائرُ دينهم في ديارهم فضلاً عن عجزهم عن نشر دعوتهم فَوَجَبَ وجوباً عينياً لا مناص منه أنْ يتجهَّز كلُّ مسلم وأن ينطويَ على نيّة الجهاد، وإعداد العُدّة له حتى تَحين الفرصة ويقضيَ الله أمراً كان مفعولاً"11.

وقد أوضح البنا أنّ الحربَ ضرورةٌ اجتماعية وشرٌّ لا بُدَّ منه، وأنّ الأصلَ في الحياة هو السلامُ والاستقرار وقد حدّد خمسةَ أغراض للحرب في الإسلام12.

1- رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين.

2- تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتونهم عن دينهم.

3- حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعاً ويتحدد موقفهم منها تحديداً واضحاً لأن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة إلى الناس كافة.

4- تأديب ناكثي العهد من المعاهِدين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتأبى حكمَ العدل والإصلاح.

5- إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا والانتصار لهم من الظالمين.

وإذا طبقنا رؤيةَ الإخوان للجهاد نجد أنّ الأغراضَ الخمسة للجهاد التي حدَّدها حسنُ البنا تنطبق على فلسطين وبذلك أصبح الجهادُ لتحرير فلسطين "فرضَ عَينٍ على كل مسلم"، وعليه تكون فلسطين بالنسبة للإخوان "السوقَ والذي تربح فيه الصفقة مع الله وتفوز فيه بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة" وقد أفتى الشيخُ (سيد سابق) أحدُ فقهاء الإخوان أثناء حرب 1948م بتأجيل أداء فريضة الحج وتقديم المال للجهاد في فلسطين13.

وتؤكد كتاباتُ الإخوان على مفهوم الجهاد في فلسطين ووجوب الجهاد في سبيلها "إنّ قضيةَ فلسطين هي قضية العالم الإسلامي من مصر إلى بغداد ومن المغرب إلى فارس ومن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وإنّ المسلمين في آفاق الأرض لا يفرطون في شبر من هذه الأرض المقدسة ولا يتركون الدفاع عن القبلة الأولى، ولَئِنْ أفتى علماءُ العراق بوجوب الجهاد في سبيل فلسطين فقد صَدَرَتْ عن دار الإخوان المسلمين في مصر الفتوى ذاتُها14.

ويؤكد الإخوانُ على أنّ الجهادَ أصبح فرضَ عَيْنٍ على كلِّ مُسلم: "أيُّها الإخوانُ لقد أصبحَ الجهادُ في سبيل فلسطين فرضَ عينٍ على كلِّ مسلم فأيُّكم يُؤثر الحياةَ الدنيا وزينتَها على الجهاد في سبيل الله؛ تظفرون فيه بإحدى الحسنيين نصرٍ تعلو بعده كلمةُ الله أو شهادةٍ لا جزاء لها ورب الكعبة إلا الجنة"15.

وأثنى الإخوانُ على جهاد الفلسطينيين في ثورة 1936- 1939م: "أيها الفلسطينيون البواسل من شباب محمد وحماة بيت المقدس صبراً جميلاً ولقد ربحتم كثيراً ولو لم يكن من نتائج ثورتكم المباركة الحقّة إلا أنْ كشفتم غشاواتِ الذّلة وحُجُبَ الاستسلام عن النفوس الإسلامية وأرشدتم شعوبَ الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة ورِبْح لكنتم الفائزين"16.

لقد اعتبر الإخوانُ المسلمون البلادَ الإسلامية أمةً واحدة تجمعها رابطةُ العقيدة، وأنَّ أيَّ عدوان يقع على واحدة منها أو على أي فرد من الأمة الإسلامية يعتبر عدواناً على المسلمين جميعاً، ويَذكر البنا أنه قرأ حُكماً في أحد كتب الفقه يقول: "امرأة مسلمة سبيت بالمشرق وَجَبَ على المغرب تخليصُها وافتداؤها ولو أتى ذلك على جميع أموال المسلمين" ويخلص البنا من هذا الحكم إلى حقيقتين:-

الأولى: أنّ الوطنَ الإسلامي واحد لا يتجزأ، وأنّ العدوان على جزء من أجزائه عدوانٌ عليه كلِّه.

الثانية: أنّ الإسلامَ فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم سادةً في أوطانهم "ومِن هنا يَعتقد الإخوان المسلمون أنَّ كل دولة اعتدت وتعتدي على أوطان الإسلام دولةٌ ظالمة لا بُدَّ أن تَكُفَّ عدوانَها، ولا بُدَّ من أنْ يُعِدَّ المسلمون أنفسَهم ويعملوا متساندين على التخلص من نيرها"17.

وهكذا جمعت القضيةُ الفلسطينية بين مفهوم الأمة الإسلامية ومفهوم الجهاد لدى الإخوان ، لذلك ذكر حسن البنا بأنَّ حلَّ القضية الفلسطينية سيكون بالوحدة والجهاد18.


ثانياً: المكانة الدينية لفلسطين في الإسلام

لفلسطين منزلة كبيرة في الإسلام؛ فبيت المقدس هو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى الرسول عليه الصلاة والسلام، كما أنَّ المسجدَ الأقصى أحدُ المساجد الثلاثة الذي يُشد إليها الرِّحال كما رُوي عن الرسول عليه السلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" رواه البخاري ومسلم.

كما وَصف اللهُ سبحانه وتعالى أرضَ فلسطين بالأرض المباركة وذلك في أكثر من موضع، بالإضافة إلى أنّها مهبطُ كثير من الأنبياء، وسَكَنَها الكثيرُ من الصحابة، وورد العديدُ من الأحاديث في فضل بيت المقدس وفلسطين بصفة عامة وبفضل هذه المكانة اهتمَّ الإخوانُ اهتماماً كبيراً بالقضية الفلسطينية وقد ركَّزتْ كتاباتُهم على المكانة المقدسة لبيت المقدس: "إن الأرض التي بارك الله حولها وأسرى رسولَه الكريم صلوات الله عليه وسلامه إليها وقام فيها المسجد الأقصى ومنه عرج النبي الأمين إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى لهي عزيزة على نفس كل مسلم وتراث خالد لكل مؤمن يفتديه بالمال والنفس"19.

وتَحُثُّ "النذير" على التطوع لإنقاذ فلسطين مؤكِّدة على أنها "بقعةٌ مقدسة من وطنكم الإسلامي التي مُزجت أرضُه الطاهرة بدماء الصحابة الأطهار الذين استلّوه من أيدي الكفر والطغيان وبسطوا عليه راية الإسلام، والذي أذن في ربوعه بلال وكَبَّر فيه أبو عبيدة، وهلَّل فيه خالد....... ودَحَرَ فيه صلاحُ الدين عالَمَ الكفر... فلسطين مسرى رسول الله أولى القبلتين وثالث الحرمين"20.

ويَذكر حسنُ البنا أنّ "فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام وباعتبارها مَهْدَ الأنبياء، وباعتبارها مقرَّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله"21.

ويذهب عبد الرحمن الساعاتي عام 1935م إلى فلسطين موفَداً من الإخوان ويرى عن قرب الخطرَ الصهيوني على الحرم فيقول: "أما بعدُ، فلو سار المسلمون كما سِرنا إلى أرض فلسطين ولو وقفوا أمام الحرم ومشَوْا في شوارع بيت المقدس ورأَوا أسرابَ الرجال والنساء، ونظروا كتائبَ اليهود المنظمة، وجيوشَ الصهيونية الظالمة التي تَفِدُ على فلسطين من سائر بقاع الأرض، ثمّ لو نظروهم كيف يجتمعون عند الحرم ويقفون عند البراق الشريف فيَنفخ أحدُهم في البوق خلافاً لكلِّ عُرف ونِظام فيجيبه جمهورُ اليهود (في العام المقبل يا إسرائيل)، لو نظرَ المسلمون ذلك وفهموا ما يرمي إليه اليهودُ من ورائه لتجافت جنوبهم عن المضاجع وسارعوا لإنقاذ الحرم قبل أن يأتي الوقت الذي يريدون فيه الصلاة فلا يستطيعون)"22.

ونظراً للمنزلة الدينية لفلسطين "فإنّ الإخوان المسلمين يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنّ فلسطين جزءٌ من العقيدة الإسلامية وأنّ أرضَها وقفٌ إسلامي على جميع أجيال المسلمين في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى يوم القيامة، لا يجوز لأحد كائناً مَنْ كان أن يُفرِّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جداً منها، ولذلك فهي ليست ملكاً لفلسطين أو العرب فحسب بل هي ملك للمسلمين جميعاً ... فعلى المسلمين في كل مكان أن يساهموا عملياً في تقديم المال والدم للدفاع عنها)"23.

كما ارتبطت المكانة الدينية لبيت المقدس والأحاديث عن القتال بين المسلمين واليهود وانتصار المسلمين بمفهوم الجهاد عند الإخوان فقد جاء في الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من يغزوهم قاهرين لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قيل يا رسول الله: وأين هم، قال ببيت المقدس". رواه البخاري ومسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهودَ فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". رواه البخاري ومسلم.

وقد أدَّتْ هذه الأحاديثُ التي تُبشِّرُ بالنّصر للمسلمين على اليهود إلى إعطاء مفهوم الجهاد في فلسطين صفةً ومكانة خاصّة، تجلّى ذلك في تساؤل صالح عشماوي "الدرس: عداوة اليهود للمسلمين، وتنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بما سيحدث في فلسطين نظرياً وعملياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجاهدون اليهودَ كما جاهدهم ويقاتلونهم كما قاتلهم ويجلونهم عن الأرض المقدسة مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، كما أجلاها أسلافنا الأولون عن جزرة العرب"25.


ثالثاً: تهديد المشروع الصهيوني للأمن القومي المصري

لم تقتصر الدعاوي الصهيونية الزائفة على فلسطين فقط، بل امتدت أطماعُ الصهيونية لتشمل العديدَ من الأقطار العربية، فحدود فلسطين كما تريدها الصهيونية هي من النيل إلى الفرات.

وأطماع الصهيونية في مصر بدأت بصورة مبكرة، وكما قال هرتزل: "إن سيناء والعريش هي أرض اليهود العائدين إلى وطنهم".

وقد سبق الإشارةُ إلى بعض المحاولات الاستيطانية الصهيونية والتي كان من ضمنها العريش وسيناء26.

كما كان من ضمن المشاريع الاستيطانية الصهيونية مشروعُ توطين اليهود في أوغندا، وهو المشروع الذي أعقب فشلَ مشروع الاستيطان الصهيوني في العريش وسيناء، وتقع الأراضي التي وقع عليها الاختيار لتوطين اليهود فيها في كينيا وإنْ عُرف المشروع خطأً بمشروع أوغندا، والنقطة المهمة في هذا المشروع، والتي أشارت إليه بعض الآراء أنّ الهدفَ من محاولة الاستيطان في هذه المنطقة هو العمل على التحكم في منابع نهر النيل، واستغلال ذلك للضغط على جميع الأطراف التي عارضت محاولة الاستيطان الصهيونية في العريش وسيناء لإرغامهم على التخلي عن معارضتها"26.

ويرى طارق البشري أنّ هذا المشروعَ الصهيوني كان تهديداً لمصر نظراً لموقع الوطن المقترح لليهود، والذي يتحكم في منابع النيل وقد ذَكَرَ مندوبُ بريطانيا في أوغندا عام 1894م أن أوغندا أقوى دول شرق أفريقا لسيطرتها على منابع النيل وأنّ "موقفنا في أوغندا ومصر موقفٌ واحد لا ينفصل أحدهما عن الآخر لأنّ مَنْ مَلَكَ أعالي النيل يتصرف بمصر على هواه ومشيئته ويكون باستطاعته أن يقضيَ على مصر27.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حسن البنا : مجموعة رسائل الإمام حسن البنا ، دار الشهاب، القاهرة، د: ت، رسالة دعوتنا، صـ 19، رسالة المؤتمر الخامس، صـ 176.

(2) حسن البنا : رسالة تحت راية القرآن، صـ112- 113، رسالة المؤتمر الخامس، صـ175- 176.

(3) رسالة المؤتمر الخامس، صـ176.

(4) نفس المرجع والصفحة.

(5) يوسف القرضاوي: مذكرات يوسف القرضاوي "ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة"، آفاق عربية، السنة السابعة، عدد (555)، 2 مايو 2002 .

(6) رسالة المؤتمر الخامس، مجموعة الرسائل، صـ178.

(7) راجع ذلك في كتاب الإخوان المسلمين وثورة اليمن 1948.

(8) حسن البنا : مذكرات الدعوة والداعية ، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1986، صـ260، وقد نشرت رسالة الإخوان المسلمين إلى سفير بريطانيا في جريدة الإخوان المسلمين، السنة الخامسة، عدد 22، 5 نوفمبر 1937، وانظر في نفس العدد مقال محمد عبد الحميد: خواطر في فلسطين، عبد الرحمن البنا: ثورة الدم، القاهرة 1951، صـ23، وقد نشر مقالة "فلسطين تعنينا" في جريدة الإخوان المسلمين، السنة الرابعة، عدد 22، 8 سبتمبر 1936.

(9) عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، جـ1، د.ط، 1986، صـ23- 24.

(10) حسن البنا : رسالة التعاليم، مجموعة الرسائل، صـ273.

(11) نفس المرجع: رسالة الجهاد، صـ248- 264.

(12) حسن البنا : السلام في الإسلام، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1990، صـ52- 59.

(13) عبد الفتاح محمد العويسي: تصور الإخوان المسلمين للقضية.

(14) الفلسطينية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1990، صـ50.

(15) عبد الرحمن البنا: المرجع المذكور، صـ86- 91.

(16) النذير: السنة الأولى، عدد 18، 2 شعبان 1357هـ.

(17) نفس المصدر والعدد.

(18) حسن البنا : رسالة المؤتمر الخامس، مجموعة الرسائل، صـ183- 184.

(19) عبد الفتاح محمد العويسي: المرجع المذكور، صـ52- 53.

(20) صالح عشماوي: اذكروا فلسطين، النذير، السنة الأولى، عدد 18، 2 شعبان 1357هـ.

(21) محمد عبد الحميد أحمد: إلى الجهاد أيها المسلمون لإنقاذ فلسطين الإسلامية، النذير، السنة الأولى، عدد 18، 2 شعبان 1357هـ، صـ21- 23.

(22) حسن البنا : رسالة المؤتمر الخامس، مجموعة الرسائل، صـ184.

(23) عبد الرحمن الساعاتي: لبيك يا فلسطين المسلمة، الإخوان المسلمون، السنة الثالثة، عدد 30، 5/1/1935.

(24) عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ38- 39.

(25) نفس المرجع، 52- 53.

(26) محمود شيت خطاب: المرجع المذكور، صفحات 15، 27- 34.

(27) أمين عبد الله محمود: المرجع المذكور، 215- 217.


لا يوجد صور متاحة


مقالات أخرى قد تهمك