بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، سيدنا مُحمَّدٍ، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمَّا بعد:
فإنَّ ﴿الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ الأنبياء: من الآية 71. هي القدس.
وهي فلسطين، كما وصفها الله تعالى من فوق سبع سماواتٍ.
وفي هذه الأيام نعيشُ لنرى هذه الأرضَ المُباركة، وهي تتعرضُ لأبشعِ هجمةٍ ترمي إلى محوِ هُويّتها العربيَّة الإسلاميَّة التَّاريخيَّة، وتغييرها، وفرض طابعٍ مستحدثٍ عليها، وهو الطابع اليهودي، أو ما يُعرف في الأدبيَّات السِّياسيَّة باسم التَّهويد.
ليًّا لعنق الحقيقة، ورغمًا عن أنف التَّاريخ.
ذلك التَّاريخُ الذي يؤكّد لنا حقائقَ لا تقبلُ الشَّكَّ بأنَّ العربَ اليبوسيين هم أوّلُ مَنْ حفِظ التَّاريخُ الإنسانيُّ وجودَهم في القدس، فآثارُهم هناك تدلُّ على أنَّهم سكنوا المنطقةَ المسمَّاةَ الآن بفلسطين، حتى مِنْ قبل اختراع الكتابة والتَّدوين، وَفْق ما أظهرتْهُ دراساتُ الحفريات التي عُثِرَ عليها هناك, والتي أظهرَتْ أنَّ قبائلَ اليبوسيين هاجَرَتْ من موطنها الأصلي في شبه الجزيرة العربية قبلَ ستة آلاف عامٍ، وسكنوا مدينةَ القدس وما حولها، فعُرِفَتْ أرضُ فلسطين بأرض اليبوسيين، الذين سُجّلَ لهم إنشاءُ عاصمةِ دولتهم في مدينة القدس، وكانت تُعرف آنذاك باسم (يبوس) أو (أورسالم).
وفي ذات الفترة تقريبًا هاجرَتْ قبائلُ العرب الكنعانيين والأموريين -يعود أصْلُهُم إلى قبائل العماليق- وهؤلاء من العرب العاربة أو العرب الأصليين وفق ما أثبتته دراسات الأنثروبولوجي) من شبه الجزيرة العربيَّة إلى فلسطين، وهاجر الفينيقيون الذين كانوا من بطون الكنعانيين، وتركَّز وجودُ هؤلاء في مناطق الشمال الفلسطينية، وأسَّسوا في فلسطين ما يزيدُ على مائتَيْ مدينة، كانت أبرزُها -بجانب (يبوس) أو القدس التابعة لليبوسيين- نابلسَ والخليل.
ومنذ تلك القرون المتطاولة التي تسبِقُ التَّاريخَ الإنسانيَّ المكتوب، لم يسكنْ غيرُ العرب القدسَ وفلسطين، أمَّا اليهودُ فلم يَحكموا هذه الأرضَ- خلافًا لما يزعمون- إلا لفترةٍ زمنيةٍ وجيزةٍ لا تزيدُ بحالٍ على سبعين إلى ثمانين عامًا، خلال فترة بعثة نبي الله داوود، ونبي الله سليمان -عليهما السَّلام- في القرن العاشر قبلَ الميلاد، بينما انتهى الوجودُ الديموجرافي اليهودي في المدينة نهائيًّا بالسَّبْيِ البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى عندما خُيِّر اليهودُ بين العودة من بابل في بلاد العراق إلى القدس بعد ذلك بقرون، عاد قليلٌ منهم فقط.
والتاريخُ يخبرُنا أنَّ من عاد منهم، حوَّل المسجدَ الأقصى -الذي أعاد نبيُّ الله سليمان، عليه السَّلام، بناءه كاملاً- إلى مكانٍ لتداول أموال الرِّبا، وظهر فيهم الفسادُ؛ لدرجة أنَّ الله تعالى أرسلَ فيهم ثلاثةَ رسلٍ في وقتٍ واحدٍ، وهم: زكريا ويحيى وعيسى -عليهم جميعًا أفضل الصَّلاة والسَّلام- فقَتلوا الأولّ والثَّاني، وحاولوا قتلَ الثالث إلا أنَّ اللهَ نجاه.
وتحالفوا مع كلِّ قوى الغزو التي طرأتْ على المدينة، من فُرسٍ ورومان وإغريق؛ سعيًا وراءَ العديدِ من المصالح المادية، وفي النهاية عادت القدسُ وفلسطينُ إلى الحكم العربي في ظل خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في العام الخامس عشر للهجرة، وظلّت- منذ ذلك الحين وحتى العام 1967م- تحت الحكم العربي الإسلامي، باستثناء فترة سيطرة الصليبيين عليها في القرن الحادي عشر الميلادي، حتى استردَّها صلاحُ الدِّين الأيوبي في العام 1087م.
ومنذ أنْ قام الكيانُ الصهيونيُّ باحتلال مدينة القدس في حرب حزيران - يونيو في العام 1967م، وهو يعملُ جاهدًا للسَّيطرة عليها، وتغييرِ معالمها بهدف تهويدها، وإنهاءِ الوجود البشريِّ والسِّياسيِّ العربيِّ فيها، وقد استَخدَم لأجل ذلك الكثيرَ من الوسائل، السِّياسيَّة والعسكريَّة و"القانونية"(!!)، وقام بالعديد من الإجراءات ضدَّ المدينة وسكّانها.
ولا يزال "الاستيطانُ" العنصريُّ في المدينة المُقدَّسة وما حولَها، أحدَ أهمِّ الوسائل لتحقيق هدفِ اليهود الأساسيِّ تجاهَ القدس، ولأجل ذلك عملت سلطات الاحتلال الصهيوني على توسيع حدود القدس إلى الشَّرق والشَّمال؛ بحيث ضَمَّتْ مغتصباتِ "معاليه أدوميم" و"عنتوت" و"ميشور جفعات بنيامين" إلى الشَّرق، و"جفعات زئيف" و"جفعات حاداشا"، و"جفعات هاردار" من الشمال، بما أخلَّ بالتوازن الديموجرافي في المدينة لصالح شُذّاذ الآفاق من اليهود؛ حيث أصبحوا أغلبيةً بنسبةِ 55% إلى 45% فقط لصالح العرب.
كلُّ ذلك صاحَبَهُ مُصادرةٌ لآلاف الدونمات من الأراضي التابعةِ للقرى والمدن والأحياء العربية التي أُقيمت عليها المغتصباتُ، بينما يتمُّ تطويقُ التجمعاتِ السكنيةِ الفلسطينية والحدُّ من توسُّعها، وأُزيلَ الكثيرُ منها، كما يحدث في أحياء سلوان والشيخ جراح والمغاربة وغيرها.
كما أنَّ بناءَ المغتصبات بالطريقة التي يقوم بها الصهاينةُ أدَّتْ إلى عزل مدينة القدس المحتلة وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة، بما يُسْقِطُ حتى حلَّ الحدِّ الأدنى المعروف باسم "حل الدولتَيْن".
وتَدَعَّمَت هذه السياساتُ بسلسلةٍ من "القوانين" الجائرة من بينها قانونُ أملاك الغائبين الذي يتم بمقتضاه نزعُ ملكية الأراضي والمنشآتِ التي يغيب عنها أصحابُها الفلسطينيون لمددٍ طويلةٍ، وقانونُ التنظيم والتخطيط، الذي انبثق عنه مجموعةٌ من الخطوات الإدارية والقانونية التعجيزية في مجالات الترخيص والبناء بالنسبة للعرب، بحيث أدّى ذلك إلى تحويل ما يزيد على 40% من مساحة القدس إلى مناطقَ خضراءَ يُمنع البناءُ للفلسطينيين عليها، وتُستخدم كاحتياطٍ لبناء المغتصبات كما تمَّ في منطقة أبو غنيم، وذلك في مقابل تهجير الفلسطينيين من مدينة القدس، من أجل خلق واقعٍ جديدٍ، يكون فيه اليهودُ النسبةَ الغالبةَ في المدينة، تنفيذاً لتوصية الَّلجنةِ الوزاريَّة الصهيونية لشؤون القدس الصادرةِ في العام 1973م، برئاسة جولدا مائير، والتي تقضي بأنْ لا يتجاوزَ عددُ السكان الفلسطينيين في القدس 22% من المجموع العامِّ لسكانها.
كلُّ هذه التَّرتيبات تتمُّ بالمخالفة لكلِّ الاتفاقيات التي تُنظِّمُ أوضاعَ الأراضي المحتلة، مثلِ اتفاقيَّة جنيف الرابعة الموقعةِ في العام 1949م، واتفاقيات لاهاي للحرب في العامَيْن 1899م و1907م، والتي تَمنع جميعها على سلطات الاحتلال في أي بلدٍ محتلٍّ تغييرَ هُويته الدِّيموغرافيَّة أو الطُّبوغرافيَّة، إضافةً إلى انطباق معاهدة لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة لعام 1954م على ما يجري في مدينة القدس.
كما أنَّ هذه الإجراءاتِ الصهيونيةَ الباطلةَ تخالف كافّةَ القرارات الدَّوليَّة المعنية، فالقدسُ القديمةُ مسجَلَّةٌ رسميًّا ضمن لائحة التراث العالميِّ المهدَّد بالخطر لدى (اليونسكو)، وشجبت المنظمةُ، في أكثر من مرة، الاعتداءاتِ التي تقوم بها سلطات الاحتلال الصهيوني هناك، كما أنَّ مجلسَ الأمن أصدر قراراتٍ عديدةً، تؤكِّدُ إدانةَ وبطلانَ كلِّ ما قام به الكيانُ الصهيوني من إجراءاتٍ في القدس، ويدعوه إلى الجلاء عن المدينة، وسائرِ الأراضي العربية المحتلة، ومن بينها القرارَيْن الشهيرَيْن (242) الصادر في العام 1967م، و (338) الصادر في أعقاب حرب رمضان في العام 1973م.
صمْتٌ مُريبٌ إلا أنَّ المجتمعَ الدوليَّ لم يحرِّكْ ساكنًا لتنفيذ هذه القراراتِ ووقفِ ما يقوم به الكيانُ في القدس وفلسطين، بخلاف ما فَعَلَهُ في حالاتٍ مماثلةٍ إزاء معالمَ تراثيةٍ وتاريخيةٍ إنسانيَّةٍ، فالعالَمُ الذي انتفض لإنقاذ معابد فيلة من مياه السد العالي، وبذَلَ المستحيلَ لمنع تفجير تماثيل بوذا في أفغانستان، يقفُ الآن صامتًا، يشجِّعُه على ذلك حالةُ العجز والشَّلل التى تعاني منها الأنظمةُ والحكوماتُ العربية والإسلامية.
كما أننا نلومُ الشُّعوبَ العربيَّة والإسلاميَّة على ضعف ردَّةِ فعلها إزاءَ ما يجري في المدينة المُقدَّسة؛ حيث يخوض أهل الرِّباط في فلسطين معركةَ القدس وحدَهم حتى الآن.
وعندما سُئِلَتْ جولدا مائير عن أسوأ لحظةٍ في حياتها، أجابت عندما احترق المسجد الأقصى في العام 1969م على يد متطرفٍ يهودي أسترالي، وعندما اندهشَ سامعوها لذلك، أوضحَتْ أنَّها خَشِيَتْ أنْ يؤدِّيَ هذا الفعلُ إلى مَوْجاتٍ من ردِّ الفعل الغاضب، تدفَعُ الشُّعوبَ الإسلاميَّة إلى التقاطُر إلى فلسطين بالملايين، لتحريرها وتحرير القدس بالقوة.
وعندما سُئِلَتْ هذه الهالكةُ عن أسعدِ لحظاتِ حياتها، قالتْ بعد ذلك بساعة، عندما "اطمأنَّتْ" إلى أنَّ الشُّعوبَ الإسلاميَّةَ لم تتحرَّكْ كما تخوَّفت هي "نستنهض هممكم" يا أيها العرب والمسلمون.
إنَّني أدعوكم إلى التَّحرُّكِ المؤثِّر والفاعِل لإفشالِ ما يرتكِنُ إليه الصهاينةُ وأعوانُهم من سلبيةِ وعجزِ الأنظمة إزاءَ ما يجري، أدعوكم إلى التَّحرُّكِ الإيجابيِّ لمواجهة أخطرِ مخططٍ تشهده الأمةُ ومقدساتُها، عبْرَ التاريخ، من أخطر أعدائها؛ اليهودِ وأعوانهم.
قال تعالى ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ المائدة: الآية 82.
إنَّ تخاذُلَ الحُكَّام والأنظمة وتقصيرَها يرمي بالمسؤولية على عاتقنا نحن الشعوبَ، وكلٌّ منَّا في موضعه.
فعلماءُ الدِّين مطلوبٌ منهم رفعُ الوعي العامِّ لدى المسلمين بأهميَّة القدس ومكانة الأقصى في عقيدة المسلمين، وواجبِ كلِّ مسلمٍ إزاء ما يجري هناك.
والسِّياسيُّون مطلوبٌ منهم نبذُ الخلافات وتوحيدُ المواقف وحشدُ الجماهير وراء أهل فلسطين في مواجهة هذه الهجمة.
والمثقفون من الواجب عليهم- من خلال كتاباتهم ومناقشاتهم وندواتهم وأدبياتهم- إشعالُ حماسة الجماهير للتصدِّي لهذا الخطر، كما تفعل كلُّ الأمم الراقية في أوقات الشِّدَّة والخطر.
وأمّا الشُّعوب: فيجب أنْ تستعيدَ ثقتَها بنفسها وأنها قادرةٌ- إن امتلكت إرادةَ الفعل- أن تلعبَ دورًا مُهمًّا في مواجهة هذه الهجمة.
يا أيُّها النَّاس، إنَّ دماءَ الشهداء تناديكم، وحجارةَ الأقصى تستنجدُ بكم.
يا أحفاد المعتصم:
إن مقدساتِكم وأعراضَكم المهدّدةَ والمُنتَهكَة هناك تناديكم.
فهل من مجيب؟!
وفي النَّهاية أذكرِّكُم ونفسيَ بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ المائدة: 105
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخميس 7 أيار - مايو 2009
المصدر: ikhwan.site