الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية - 7 - هل فطن الإخوان إلى أطماع الصهيونية في مصر وتهديدها للأمن القومي لمصر؟

بقلم: د/ صفوت حسين: كاتب ومحلل سياسي "بتصرف"

الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية

"1936 – 1949"

 

 

هل فطن الإخوان إلى أطماع الصهيونية في مصر وتهديدها للأمن القومي لمصر؟

من الواضح من كتابات الإخوان أنهم قد فطنوا إلى الخطر الذي تُمثله الصهيونيةُ على مصر، وأنَّ نجاحَ المخططات الصهيونية في فلسطين يُشكِّل تهديداً خطيراً لمصر، ليس فقط على المستوى الأمني بل في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، ولذلك نَجِدُ الكثيرَ من الكتابات التي تُعَبِّرُ عن هذا الخطر، ومن الواضح أنَّ هذا الإدراكَ قد جاء مُبَكِّراً ويَتَّضِحُ ذلك من تواريخ مقالات كتابات الإخوان.

ففي عدد النّذير بتاريخ 2 شعبان 1357هـ / 1938م أكثرُ من مقال تَعَرَّضَ للخطر الصهيوني على مصر: "إنَّ فلسطينَ هي خطُّ الدفاع الأولُ والضربةُ الأولى نصفُ المعركة، فالمجاهدون فيها إنّما يُدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسِكم وذراريكم كما يَدْفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم".

"إنَّ قيامَ دولة يهودية على حدود مصر الشرقية لَتُهدِّدنا في كياننا وفي استقلالنا وفي تجارتنا وفي أخلاقنا وفضائلِنا، فإلى الذين يؤمنون بأنّ مصرَ فرعونيةٌ أقول لهم: إنَّ استقلالَ مصر أمسى في خطر الزّوال بقيام دولة يهودية في فلسطين".

"أيها الإخوان المسلمون: لا تنسَوا أنّ لليهود في مصر ذكرياتٌ كما لهم في فلسطين فإنْ مُكِّنَ لهم هنالك رَنَوْا بأعينهم إلى مصر حيث مولدُ موسى ومهدُه وحيث بُثَّتْ رسالتُه وحيث موعدته ومناجاته، وَمَنْ أولى بموسى ومواطن ذكرياته منهم فيما يزمعون؟"1.

كما حذّر حسنُ البنا المصريين في نفس العامِ بأنَّ عدمَ مساندة الثورة في فلسطين يعني أنّهم سيضطرون إلى أنْ يدفعوا عن أنفسهم في المستقبل غائلةَ الخطر اليهودي الصهيوني بعد أنْ تَرَسَّخ قدمُه على بعد خطوات من الحدود المصرية وحينئذ لا تنفع الجهودُ ويَصْدُقُ علينا المثلُ القائل: (أُكلت يومَ أُكل الثورُ الأبيض).

ويؤكّد حسنُ البنا على هذا المعنى بصورة أكثر وضوحاُ في سبتمبر 1945م: "نريد أنْ نُؤَمِّنَ حدودَنا الشرقيةَ بحلِّ قضية فلسطين حلّاً يُحقق وجهةَ النظر العربية، ويَحُولُ دونَ تَغَلُّبِ اليهود على مرافق هذه البلاد. نحن نطالب بهذا لأنه تأمينٌ لحدودنا ومصلحةٌ مباشرة لنا".

كما حذر حسنُ البنّا الحكومةَ المصرية عام 1946م من الأطماع الصهيونية في سيناء، وطالَبَ بالإسراع بنقل الجمرك من القنطرة إلى رفح، وإقامة منطقة صناعية على الحدود، بالإضافة إلى إنشاء جامعةٍ مصرية عربية بجوار العريش، كما اعتقد الإخوان أنَّ قيامَ دولة يهودية في فلسطين سيهدِّد موقفَ مصر الاقتصادي وسيُغرق الأسواقَ المصرية بالمنتجات اليهودية، هذا بالإضافة إلى سيطرة اليهود المصريين على الحياة الاقتصادية في مصر، ممّا سيؤدّي بالتالي إلى أننا "سنفقد استقلالنا الاقتصادي"2.

ومن الواضح من هذه الأقوال والكتابات إدراكُ الإخوان لحقيقة ارتباط الأمن القومي المصري ببلاد الشام وأنَّ الأمنَ القومي المصري من جهة الشرق لنْ يتَحقَّق إلا بتأمين هذه البلاد، وهو الأمرُ الذي أكَّدتْه حقائقُ التاريخ؛ فمن الحدود الشرقية لمصر جاءت معظمُ الغزوات التي تعرَّضَتْ لها مصرُ على مدار تاريخها، ولذلك عَمِلَ كلُّ حكام مصر منذ الفراعنة وعلى مدار كلِّ العصور على تأمين الجهة الشرقية لمصر عن طريق ضمِّ بلاد الشام لمصر.

بل نَجِدُ حسنَ البنا في عام 1945م يؤكّد على ما يُسمَّى الآن "نظريةَ الأمن القومي المصري"؛ فيرى أنّ صيانةَ الحقوق الوطنية لوادي النيل تتطلَّبُ تأمينَ حدود مصر من جميع الجهات؛ فمن الجهة الغربية رأى أنَّ الأمرَ يتَحَقَّقُ "يوم تُسَلَّم ليبيا لأهلها العربِ الذين جاهدوا في سبيلها عشرات السنين... وتقومُ فيها حكومةٌ عربية مستقلة وتظلُّ وطناً موَحَّداً حُراً مستقلاً".

ومن الجهة الشرقية لا يتحقق الأمرُ إلا "بحلِّ قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية ويحول دون تَغلُّب اليهود على مرافق هذه البلاد".

أما من الجهة الجنوبية فقد رأى أنَّ تأمينَ حدودِ النيل يكون "بأنْ تُحفظَ حقوقُنا في الأرتريا ثم زيلع ومصوع وهَرَر وأعالي النيل..."

ومن الواضح مما تقدم إدراكُ البنا لحقيقة أنَّ الأمنَ القومي المصري لا يتحقق على حدود مصر فقط بل بتأمين البلاد المجاورة لمصر من الشرق بحل قضية فلسطين واستقلاله ومن الغرب باستقلال ليبيا ومن الجنوب بتأمين أعالي النيل وعودة الأماكن التي فتحتها مصر وقامت بإعمارها "ثم اغتصبت من جسم الوطن ظُلماً وعدواناً"، ويؤكد البنا على تأمين الحدود المصرية بتأمين الأنظمة المجاورة لمصر من مختلف الجهات "ومن واجبنا أن لا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا وأن نرجع في ذلك إلى تاريخنا لنرى أي ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح في سبيل تأمين حدودنا لا لمطامع استعمارية ولا لمغانم جغرافية ولكن لضرورات حيوية لا محيص منها"3.

إنَ هذا التصوّرَ الشاملَ لأبعاد الأمن القومي المصري يوضِّح إدراكَ الإخوان للخطر الصهيوني على مصر، وإنّ مقاومة المخططات الصهيونية والدفاع عن قضية فلسطين هو دفاعٌ عن المصلحة الوطنية المباشرة لمصر، وهو الأمرُ الذي يؤكّد عليه طارق البشري رداً على الذين يتحدثون عن التضحيات التي قدمتها مصر دفاعاً عن قضية فلسطين، ويؤكّد وهو يتحدث عن الصهيونية في مصر أنّ الدفاع عن فلسطين هو دفاعٌ عن المصلحة الوطنية المصرية بالمعنى الضيّق إذا استبعدنا أي اعتبارات أخرى كالواجب العربي أو الإسلامي، ويَأخذ على الحركة الوطنية المصرية أنها لم تَضَع الخطرَ الصهيوني في بؤرة الإدراك الوطني المصري وأنّ النزوعَ التقليدي للحركة الوطنية المصرية كان مقصوراً على قضية الجلاء ووحدة وادي النيل حتى الحرب العالمية الثانية، وأنّ حزب الوفد لم يكن قادراً على استيعاب هذا الخطر على عكس التنظيمات الشعبية التي تَصَدَّتْ لهذا الخطر وعلى رأسها جماعةُ الإخوان التي " كانت أكثرَ التنظيمات الشعبية إدراكاً لهذا الأمر وتصدياً له ... وأنّ وضْعَ المسألة الفلسطينية في بؤرة الأهداف الوطنية من شأنه وجوبُ إعادة تقدير دورهم ودور غيرهم السياسي"4.

ولذلك يُمكن القولُ: إنّ اهتمامَ الإخوان بالقضية الفلسطينية كان في أحد جوانبه ينطلق من دافعٍ مصري تتطلّبه المصلحةُ الوطنية العليا المصرية، وعملاً في نفس الوقت لصالح القضية المصرية5.

رابعاً: أخطار المشروع الصهيوني على الوحدة العربية والإسلامية

أدركَ الإخوانُ خطورةَ المشروع الاستيطاني الصهيوني على الوحدة العربية والإسلامية مثلما أدركوا خطورتَه على مصر، وقد أدركوا أنّ هذه الخطورةَ لا تتوقف عند الأخطار السياسية بل تتعدّى ذلك إلى الأخطار الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرِها من المجالات وبذلك كان المشروعُ الصهيوني تهديداً للحلقات الثلاثة لدى الإخوان .

وقد أدرك الإخوانُ طبيعةَ الحركة الصهيونية كحركة سياسية استعمارية وارتباطها بالدول الاستعمارية وعلى رأسها في تلك الفترة بريطانيا ثم الولاياتُ المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عبَّر حسنُ البنا وغيرُه من الإخوان عن هذه الأفكار في الكثير من الكتابات فيذكر حسنُ البنا: "إنّ العربَ حين يذودون عن فلسطين ويطالبون بِحقّها يشعرون من أعماق قلوبهم أنّ صميمَ وحدتهم وسلامةَ أوطانهم وحقيقةَ استقلالهم كل ذلك مرهون بهذا الجزء من أرضهم وبأنْ يظلَّ لهم؛ فلا تقوم فيه دولةٌ لسواهم، فَدِفاعُهم عن فلسطين دفاعٌ عن صميم كيانهم فضلاً عن الاعتبارات الدينية والخُلُقية الأخرى، والعربُ يُدْرِكون هذه الحقيقةَ فهم لا يجاملون أهلَ فلسطين ولكنهم يحافظون على وجودهم وعلى أرضهم"6.

كما أدرك الإخوانُ المطامعَ الاستعماريةَ للحركة الصهيونية، وأنَّ مطامعَها لا تَقِفُ عند فلسطين؛ بل ستمتدُّ لِتشملَ ما جاورها من الأقطار من الفرات إلى النيل ففي عام 1936م يكتب البنا محذراً من مطامع الصهيونية "فهم لا يقتصرون على فلسطين لكنهم سيتحيفون الأرض من كل جانب، وهم خطر على وحدة العرب في الشرق لأنهم لا يعيشون إلا في جو التفريق".

وفي عام 1948م يوجه البنا بياناً للشعوب العربية يُحذِّر فيه من الخطر الصهيوني وأنّ "دولتهم الخيالية التي يعبرون عنها بجملتهم المأثورة (ملك سليمان إسرائيل من الفرات إلى النيل) في عُرفهم ما هي إلا نقطةُ ارتكازٍ تَنْقَضُّ منها اليهوديةُ العالمية على الأمة العربية دولةً فدولة ثم على المجموعة الإسلامية أمة بعد أمة7.

كما أدرك الإخوانُ أنّ إنشاءَ كيان صهيوني في فلسطين يعني تنفيذَ المخططات الاستعمارية في البلاد العربية، وأنَّ هذا الكيانَ سيُشكِّل قاعدةً للدول الاستعمارية ويعمل على فصل الدول العربية عن بعضها، ويُهدد كيانَ العرب، فقضيةُ فلسطين "كارثة خطيرة تهدد كيان العرب ووجودهم لا في فلسطين وحدها بل في جميع البلاد العربية إذ لم يَعُدْ خافياً أنّ الصهيونيين لا يطمعون في فلسطين وحدها بل في جميع البلاد العربية" وأنّ مصلحةَ أمريكا وانجلترا السياسة أنْ يُثَبِّتوا شوكةً يهودية في جسم الدول العربية حتى يَأْمنوا جانبَها وحتى يُهدِّدوا هذا الجسمَ العربيَّ بالانحلال السريع"8.

ولعلَّ حديث الإخوان عن تثبيت أمريكا وإنجلترا للكيان الصهيوني كشوكة في جسم الأقاليم العربية يوضح إدراكَ الإخوان للمخططات الاستعمارية في المنطقة، والعمل على زرع هذا الكيان الصهيوني كحاجز بين جناحي الأمة العربية كما جاء في تقرير كامبل، كما اعتقد الإخوانُ أنَّ قيامَ الكيان الصهيوني سيؤدي إلى خلق مشاكلَ وأخطارٍ لا نهاية لها تَشغَل العربَ وتستنفذ قُوتهم وتَخلق مشاكلَ داخليةً في كل بلد عربي من قِبَل الجاليات اليهودية التي تعيش فيها والتي ستشكل طابوراً صهيونياً خامساً سيكون ولاؤه للدولة الصهيونية9.

وبالإضافة إلى الأخطار السياسية المترتبة على الدول العربية فقد أدرك الإخوانُ خطرَ الصهيونية على العالم الإسلامي وأنّ الخطرَ الصهيوني يُهدد "العالمَ الإسلامي كلّه، والعدو الصهيوني يعتبر نفسه مخلب قِطٍّ لكل القوى الأجنبية التي لها مطامع في أي بلد عربي أو إسلامي10.

كما اعتقد الإخوانُ أنّ قيامَ الكيان الصهيوني يُنذر العالمَ الإسلامي بالاضمحلال الروحي ويهدده من ناحية العقيدة والإيمان حيث الخطر الصهيوني الذي يستهدف الأماكنَ المقدسة في بيت المقدس والمتمثل بحلم اليهود بهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان مكانه11.

كما تَنبَّه الإخوانُ للأخطار الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي تُهدد العالمَ العربي والإسلامي من جرّاء المشروع الصهيوني وقد ركز الإخوانُ على الخطر الاقتصادي على الشرق الأوسط نتيجةَ صِغَر مساحة فلسطين مما سيدْفَع كبارَ الممولين اليهود المهاجرين إلى فلسطين إلى محاولة استثمار أموالهم في البلاد العربية المجاورة وتصريف منتجاتهم في دول الشرق الأوسط مما سيؤدي إلى "خرابٍ اقتصادي واضطرابٍ مالي"، كما حذَّر الإخوانُ من الخطر الاجتماعي المترتّب على قيام الكيان الصهيوني حيث ستلجأ الصهيونيةُ إلى نشر الإباحية والإلحاد وقد عبّر البنّا عن هذه الأخطار بقوله: "أنه لن تقوم في أي دولة صناعةٌ ناجحة ولا تجارة رابحة وستقضي المنافسةُ الصناعية والتجارية على كلِّ أملٍ لهذه الأمة العربية والإسلامية في التقدم والنهوض، هذا فضلاً عن الفساد الاجتماعي الذي تحمله جراثيمُ هذه الرؤوس اليهودية الطريدة مِنْ كلِّ دولة مما يشيع في هذه المجتمعات الكريمة أسوأَ ما في الإباحية والإلحاد والتحلّل، وكلّ خلق فاسد مرذول"12.

من هذا العرض لرؤية الإخوان للقضية الفلسطينية يتضح أنَّ هناك عواملَ متداخلةً سواء دينية أو سياسية أو فكرية قد أدَّتْ إلى الاهتمام الكبير من جانب الإخوان بالقضية الفلسطينية، وأنّ الإخوانَ كانوا على وعي بطبيعة المشروع الصهيوني وأخطاره على مصر والعالم العربي والإسلامي، وأنّ هذا الوعيَ قد تَشكّل لدى الإخوان بصورة مبكّرة قياساً بالقوى الأخرى كما سنرى.

ومن الواضح من تَتَبُّع تواريخ كتابات الإخوان عن القضية الفلسطينية أنّ الإخوانَ كانوا على وعيٍ تامٍّ بالمشروع الصهيوني وأخطاره خلال فترة الثورة الفلسطينية 1936- 1939م.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طارق البشري: المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الوحدة، بيروت، 1982، صـ574- 575. انظر لنفس المؤلف: سعد زغلول يفاوض الاستعمار، لهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1977، صـ130- 131.

(2) النذير: السنة الأولى، عدد 18، 2 شعبان 1357هـ.

(3) عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ55- 57.

(4) إبراهيم البيومي غانم: الفكر السياسي للإمام حسن البنا ، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1992، صـ430- 431.

(5) طارق البشري: المرجع المذكور، صـ586- 587.

(6) عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ57.

(7) حسن البنا : هبى ريح الجنة، الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثالثة، عدد 76، 3/ 11/ 1945 .

(8) إبراهيم البيومي غانم: المرجع المذكور، صـ478- 479.

(9) توفيق الشاوي: بدء العمل، الإخوان المسلمين النصف شهرية، السنة الثالثة، عدد 76، 3/11/1945 .

(10) عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ58.

(11) توفيق الشاوي: مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي 1945 - 1995، دار الشروق، القاهرة، صـ12.

(12) عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ60.


No Images Available


Related Articles