جهود السلطان عبد الحميد في التصدي للحركة الصهيونية

بقلم الدكتور علي الصلابي

كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1842م – 1918م) من أشهر السلاطين الذين قدّموا لفلسطين خدمةً كبرى، فكان موقفُه ثابتا يُعتز به على مدى التاريخ، وآثرَ أنْ يَعْملَ المبضع في جسمه على أن يُفرِطَ في ذَرّة واحدة من ثرى هذه البلاد التي بذل من أجلها المسلمون دماءهم. في السطور التالية واستناداً لعدة مراجع نستعرض أبرز ما قدمه الرجل للمدينة المقدسة.

لم يترك اليهودُ فرصةً من أجل تثبيت وجودهم في القدس، فقد جرت محاولات عديدة لذلك من قبل زعماء الحركات الصهيونية منذ أمد بعيد، وحاولوا بجميع الأساليب الوصول إلى المدينة.

والاستيطان هو الذي دفع السلطان عبد الحميد إلى جعل القدس سنجقا (لواء) مستقلا عن ولاية دمشق ومتصرفية لها اتصال مباشر بالباب العالي، واتخاذ الإجراءات التالية:

1.      إصدار تشريعات وقوانين تمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتقضي بأنه لا يسمح لليهود بالدخول إلى فلسطين إلا حجاجًا أو زوارًا مقابل دفع 50 ليرة تركية والتعهد بمغادرة البلاد خلال 31 يوما.

2.      تعيين متصرف مستقيم وحازم على القدس يطبق سياسة الباب العالي.

3.      إبلاغ القناصل بأنه منزعج من إقامة اليهود بعد انتهاء التصريح.

4.      إصدار التصريح من السفارة العثمانية في البلاد التي يأتي منها اليهود.

5.      تعيين شخصية صارمة لثني اليهود عن الاقتراب من القدس.

بلدية القدس ومهامها:
في عهد السلطان عبد الحميد كان لبلدية القدس نظام مالي متعدد الإيرادات والمصروفات، وكانت موارده على النحو الآتي:

1.    الرسوم التي خصصتها الدولة.

2.    الضرائب المختلفة.

3.    الغرامات.

4.    رسوم القيان والميزان والمكاييل والعقود والذبحية ورسوم بيع أو شراء المواشي.

5.    الإعانات.

لقد استفاد أهالي القدس والمدن المجاورة من حركة تدفق الأموال على القدس من الدول الغربية خلال هذه الفترة وزادت حركة البناء والعمران، ويلاحظ المتتبع لجداول مهن البناء في القدس التوسع المطرد في دخول الحرفيين والتجار، وكان الحرفيون والتجار غالباً من المسلمين حيث إنهم أكثرُ سكان فلسطين وبأيديهم التجارة والحرف والصناعات. وقد زاد التوسعُ العمراني في هذه الفترة والبناء خارج السور بحيث أصبح البناء الحديث طابعاً جديداً مميزاً لهذه المدينة الخالدة.

ومما زاد في تدفق الأموال على القدس ارتباطها بميناء يافا البحري الذي كان ثغر فلسطين الجنوبي، علاوة على إنشاء خط سكة حديد يوصل إلى القدس، وقد بدأ تشغيله عام 1892م.

يجب علينا ألا نتجنى على العثمانيين ونسير في ركب من يسمهم بالقصور والتفريط بالمقدسات الإسلامية، فـيكفي السلطان عبد الحميد فخرًا وقوفه أمام الحملات الصهيونية التي تعرض لها من أجل فلسطين، وعدم التفريط ولو في شبر واحد من أرضها. فقد كان من أسباب زوال ملكه تمسكه بمبدئه في الحفاظ على إسلامية فلسطين وعدم التفريط فيها، كما أنّ العثمانيين أدركوا أطماع الغرب وتعاونه مع اليهود في القدس، فحدا بهم ذلك إلى جعل القدس سنجقاً تابعاً مباشرة إلى الباب العالي، لتظل تحت أنظار وإشراف الحكومة العلية في إسطنبول مباشرة.

وقد قام العثمانيون بتقنين زيارات الأجانب إلى القدس، حيث لم يسمح للزائر بالإقامة في هذه الديار أكثر من ثلاثة أشهر يرهن خلالها جواز سفر الزائر غير المسلم ويمنح بطاقة حمراء مدة إقامته في فلسطين ثم يعود من حيث أتى.

وبناء على حفاظ العثمانيين على القدس من ناحية دينية والإشراف على الأماكن المقدسة وإعمارها، فإننا نَخلص إلى القول إن العثمانيين مفترى عليهم من قبل المغرضين وإنهم لم يتهاونوا أو يقصروا في الحفاظ على هذه البلاد، لأنها تعتبر بلاداً إسلامية ولا يجوز التفريط فيها إطلاقاً، بَيْد أن توازن القوى والعداء المستحكم في نفوس الدول الاستعمارية والنظرة العدائية للإسلام والمسلمين وحب السيطرة وشهوة استغلال ثروات هذه البلاد إبان أوج الانفتاح الغربي على العالم الشرقي، زاد في توجه تلك الدول صوب هذه الديار.

وهناك عامل هام ينبغي الانتباه إليه، ألا وهو الصهيونية العالمية التي كانت وما زالت تغذي روح الحقد لدى الغرب المسيحي الذي يرجع في أصوله الثقافية إلى الفكر الصهيوني الذي تغلغل فيه، حيث إنه جعل من هذه البلاد بعامة ومن بيت المقدس بشكل خاص محط أطماع الصهيونية العالمية التي مدت أذرعها في جميع نواحي الحياة الغربية. فقد عملت الصهيونية على إنهاء الحكم العثماني وفك الدولة العثمانية عن دينها وعقيدتها وتجلى هذا العمل في تأسيس جمعية تركيا الفتاة بدعم صهيوني غربي بالإضافة إلى قوة نفوذ يهود الدونمة في تركيا الذين كان لهم نفوذ كبير خاصة في منطقة سالونيك.


موقف مميز
مما هو جدير بالذكر أن الدولة العثمانية كان لها موقف متميز من النشاط الصهيوني والدولي على سواء، فقد أصر السلطان العثماني عبد الحميد على رفض المشروع الصهيوني، سواء في مباحثاته مع هرتزل أو مع الوسطاء الأوروبيين لأن القدس مدينة مثل مكة، وتجسد هذا بإصدار فرمانات سلطانية متلاحقة تمنع دخول اليهود والأجانب إلى فلسطين إلا للزيارة مدة محددة كما ذكرنا سابقا.

ونظرا إلى خطورة الحركة الصهيونية ودور الدول الأوروبية في تشجيعها ودعمها فقد كان السلطان يخشى أن تصبح فلسطين مثل "جبل لبنان" وأن تلعب الدول الأوروبية في فلسطين الدور نفسه الذي لعبته في لبنان.

رأى السلطان كما يذكر في يومياته أن هدف الدول الأوروبية كان خلق المشاكل الداخلية والفتن في إمبراطوريته لأنها تريد إضعافها، ولأن السلطان كان زعيم الجامعة الإسلامية كما أن الدين الإسلامي كان يمثل روح العصر في الدولة العثمانية ويسيطر على أكثر العثمانيين، فلا يعقل أن يتخلى عن الأرض المقدسة لشعب غريب عن المنطقة.

وهو كذلك لا يريد إيجاد أقلية جديدة فمشاكله مع الأقليات في إمبراطوريته تكفيه وهي كثيرة، وقد استمر على موقفه هذا من الصهيونية والهجرة اليهودية حتى قيام ثورة الاتحاد والترقي عام 1908م وخلعه في عام 1909 م.


لا يخفى أن القدس كانت ضمن الخلافة الإسلامية العثمانية، وأن السلاطين العثمانيين أدركوا الأخطار التي كانت تحيق بالقدس خلال مراحل متعددة، وزاد هذا الخطر حينما ثقلت المسؤولية وأخذت حراب الغرب تنهش في جسم الدولة العثمانية التي أجمعوا على تسميتها "الرجل المريض" وكانوا ينتظرون نهايتها ليتسنى لكل منهم أخذ نصيبه من هذه الكعكة، وكان على الجانب الآخر التقاء المصالح الصهيونية والاستعمارية في هذه المنطقة.

كما أن الدور النشط الذي تمتعت به الصهيونية العالمية في هذه المرحلة كان له نصيب الأسد في إذكاء نار الحروب، وتأجيج الصراعات العالمية آنذاك من أجل تحقيق أهدافها في فلسطين. فقد عملت جاهدة على أيدي رجالاتها المتفننين في السياسة والدهاء مع استثمار الأموال الصهيونية في تحقيق أهدافهم للوصول إلى هذه الديار، وفعلا تحقق لهم ما أرادوا بعد أن أشعلوا نارا أكلت الأخضر واليابس طيلة أيام تآمرهم وما زال التآمر قائما حتى أيامنا هذه.

الأعمال التي تم إنجازها في عهد السلطان عبد الحميد الثاني في القدس:

1.    في عام 1901م تم إيصال المياه إلى القدس من مياه أرطاس.

2.    في عام 1907 تم إنشاء السبيل الواقعة بجانب السور بباب الخليل، وذلك في عهد المتصرف أكرم بك سنة 1907م.

3.    تجديد سبيل قايتباي الواقعة بين الصخرة المشرفة وباب القطانين.

4.    بناء المدرسة الرشيدية المقابلة لباب الساهرة خارج السور، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى رشيد بك متصرف القدس زمن السلطان عبد الحميد سنة 1906م.

5.    أنشئت السكة الحديدية بين يافا والقدس سنة 1892م.

6.    تم إنشاء المستشفى البلدي الكائن غربي المدينة عند الشيخ بدر سنة 1891م.

7.    تم إنشاء برج على السور فوق باب الخليل سنة 1909م.

استطاع زعيم الحركة اليهودية الصهيونية العالميّة "تيودور هرتزل" أن يتحصّل على تأييد أوربي للمسألة اليهودية من الدول (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) وجعل من هذه الدّول قوّةَ ضغطٍ على الدولة العثمانيّة تمهيدا لمقابلة السُّلطان عبد الحميد، وطلبِ فلسطين منه، وكانت الدولة العثمانية تعاني من مشاكل مالية متعددة؛ إذ كانت الأحوال الاقتصادية في البلاد على درجة من السُّوء؛ بحيث فَرضت الدُّول الأوربية الدَّائنة وجود بعثة مالية أوربيّة في تركيّا العثمانية للإشراف على أوضاعها الاقتصادية ضماناً لديونها، الأمر الذي دفع عبد الحميد الثاني أن يجد حلا لهذه المعضلة.

 

البدايات الأولى للصراع الإسلامي الصهيوني

كانت هذه الثّغرة هي السّبيل الوحيد أمام هرتزل؛ كي يؤثّر على سياسة عبد الحميد الثاني تجاه اليهود. وفي هذا الصَّدد يقول هرتزل في مذكَّراته: "علينا أن ننفق 20 مليون ليرة تركيَّة لإِصلاح الأوضاع المالية في تركيا… مليونان منها ثمنا لفلسطين، والباقي لتحرير تركيا العثمانية بتسديد ديونها تمهيدا للتَّخلص من البعثة الأوربية… ومن ثمَّ نقوم بتمويل السلطان بعد ذلك بأيّة قروض جديدة يطلبها. النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 116.

لقد أجرى هرتزل اتصالات مكثَّفة مع المسؤولين في ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وإنجلترا، وكانت الغاية من هذه الاتصالات هي إجراء حوار مع عبد الحميد الثَّاني. وفي هذا الصَّدد، نصح لاندو -الصَّديق اليهودي لهرتزل- منذ 21 فبراير/شباط 1869م أن يقوم بإجراء ذلك الحوار بواسطة صديقه نيولنسكي رئيس تحرير "بريد الشَّرق"، وفي هذا الموضوع يقول هرتزل: "إنْ نحن حصلنا على فلسطين، سندفع لتركيا كثيراً، أو سنقدّم عطايا كثيرة؛ لكي يتوسَّط لنا، ومقابل هذا نحن مستعدُّون أن نسوِّي أوضاع تركيا المالية، سنأخذ الأراضي التي يمتلكها السُّلطان ضمن القانون المدني، مع أنَّه ربّما لم يكن هناك فرق بين السلطة الملكية والممتلكات الخاصة".

النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 117.

وقام هرتزل بزيارة إِلى القسطنطينيَّة، وذلك في يونيو/حزيران عام 1896م، ورافقه في هذه الزيارة نيولنسكي الذي كانت له علاقة وديّة مع السلطان عبد الحميد، ونتيجةً لذلك؛ نقل نيولنسكي آراء هرتزل إِلى قصر يلدز، وقد دارت محاورةٌ بين نيولنسكي والسُّلطان عبد الحميد؛ إذ قال السلطان له: "هل بإمكان اليهود أن يستقرُّوا في مقاطعة أخرى غير فلسطين؟" أجاب نيولنسكي: "تعتبر فلسطين هي المهد الأول لليهود، وعليه فإنّ اليهود لهم الرّغبة في العودة إليها"، وردَّ السُّلطان قائلا "إنّ فلسطين لا تعتبر مهدا لليهود فقط، وإنّما تعتبر مهدا لكل الأديان الأخرى"، فأجاب نيولنسكي قائلا "في حالة عدم استرجاع فلسطين من قبل اليهود فإنّهم سوف يحاولون الذهاب بكلّ بساطة إلى الأرجنتين".

النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 120.

وقام السُّلطان عبد الحميد بإرسال رسالة إلى هرتزل بواسطة صديقه نيولنسكي جاء فيها: "انصح صديقك هرتزل، ألا يتَّخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدَّسة، لأنَّها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي. وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزّقت دولتي؛ فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التّمزيق أوّلا في جثّتنا، ولكن لا أوافق على تشريح جثَّتي وأنا على قيد الحياة".

 وفي هذا الصَّدد يقول عبد الحميد في مذكَّراته: "ومن المناسب أن نقومَ باستغلال الأراضي الخالية في الدَّولة، وهذا يعني من جانب آخر أنَّه كان علينا أن ننهج اتّباع سياسة تهجير خاصَّة، ولكنَّنا لا نجد أنَّ هجرة اليهود مناسبة؛ لأنَّ غايتنا هي استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا؛ حتى لا يستطيعوا الهيمنة على زمام الأمور في الدَّولة".

وبعد إخفاق جهود هرتزل بواسطة نيولنسكي، اتَّجه هرتزل إِلى قصر وليم الثّاني إمبراطور ألمانيا، ولا سيَّما أنَّه كان صديقا لعبد الحميد، بالإِضافة إلى كون وليم الثّاني هو الحليف الوحيد للعثمانيين في أوروبا، إلا أنّ مساعيه لم تُكلَّل بالنَّجاح. يقول المؤرّخ التّركي نظام الدين نظيف في كتابه (إعلان الحرية والسلطان عبد الحميد الثاني): "عندما ردَّ طلب الوفد اليهودي -المسند من قبل الإِمبراطور وليم- في الحصول على وطن لهم، أي عندما خاب هرتزل في مسعاه اشتدَّ العداءُ ضدّ "يلدز" وهذا ما كان يتوقَّعه عبد الحميد، لأنَّ اليهود قوم يتقنون العمل المنظم، وكانت لديهم قوى عديدة تضمن لهم النجاح في مسعاهم، فالمال متوفر لديهم، وكانوا يسيطرون على أهم العلاقات التجارية الدولية، وكانت صحافة أوروبا في قبضتهم، فكان في مقدورهم إطلاق العواصف التي يريدونها لدى الرأي العام متى شاؤوا…". محمد أورخان، السُّلطان عبد الحميد، حياته، وأحداث عهده 281

يضيف المؤرخ التركي قائلاً: "بدؤوا أولاً بتحريك الصحافة العالمية، ثمَّ أخذوا بتوحيد أعداء عبد الحميد الذين نشؤوا في ذلك المجتمع العثماني الخليط، فنجد أنصار المشروطيّة يتخذون طابعاً منظماً وهجومياً، علما بأنهم كانوا حتّى ذلك الوقت متفرّقين، ويعملون دون نظام ودون تنسيق؛ إذ لم يكن صعباً عليهم توحيد أعداء عبد الحميد الذين نشؤوا في ذلك المجتمع العثماني الخليط. وقد أخذ (المشرق الأعظم الماسوني الإِيطالي) على عاتقه هذه المهمّة في التوحيد والتنسيق؛ لأنه كان أقرب مركز ماسوني للإمبراطورية العثمانية. ولعبت المحافل الإيطالية -وخاصّة محفل ريزوتا في سالونيك- دوراً ملحوظاً".

محمد أورخان، السُّلطان عبد الحميد، حياته، وأحداث عهده، 282.

إزاء هذا الإخفاق قرّر هرتزل أن يستخدم وسائلَ أخرى لاستمالة عبد الحميد الثاني، حيث عرض عن طريق نيولنسكي خدمته في القضيّة الأرمنية، وفي هذا الصَّدد يقول هرتزل: "طلب مني السلطان أن أقوم بخدمة له، وهي أن أؤثّر على الصّحف الأوروبية بغية قيام الأخيرة بالتّحدّث عن القضية الأرمنية بلهجة أقلّ عداء للأتراك. أخبرت نيولنسكي حـالاً باستعدادي للقيام بهذه المهمَّة، ولكنّي أكدت على إعطائي فكرة وافية عن الوضع الأرمني؛ مَن هم الأشخاص في لندن الذين يجب أن أقنعهم بما يريدون؟ وأيّ الصُّحف يجب أن نستميلها لجهتنا؟ وغير ذلك".

وعلى هذا الأساس، فقد نشطت الدبلوماسية الصهيونيّة لإقناع الأرمن بالتّخلي عن ثورتهم. ونتيجة لذلك؛ اتصل هرتزل بسالزبوري والمسؤولين الإِنجليز بغية استخدامهم للضَّغط على الأرمن، كما نشط اليهود في مدن أوروبيَّة أخرى، مثل فرنسا للقيام بنفس الدَّور، إلا أنَّ دبلوماسية هرتزل قد أخفقت بسبب عدم تحمُّس بريطانيا؛ لأن ذلك كان يعني تأييد سياسة عبد الحميد، الأمر الذي يؤدي لإثارة الرأي العام البريطاني ضد الحكومة.

وقد حاول هرتزل لقاء عبد الحميد الثَّاني، ولا سيما أثناء الزيارة الثانية للإمبراطور وليم الثاني إلى القسطنطينية، إلا أن موظفي قصر يلدز منعوه من ذلك. واستمر هرتزل في محاولاته حتى تكلَّلت جهوده بالنَّجاح بعد سنتين (1899 ـ 1901) من الاحتكاك المباشر مع الموظَّفين الكبار لقصر يلدز خلال مقابلة عبد الحميد، حيث قابل السُّلطان لمدّة ساعتين، وقد اقترح هرتزل قيام البنوك اليهودية الغنية في أوروبا بمساعدة الدولة العثمانية لقاء السَّماح بالاستيطان في فلسطين، بالإِضافة إلى ذلك أكد لعبد الحميد أنه سوف يخفّف الديونَ العامة للدولة العثمانية، وذلك منذ عام 1881م، وقد وعد هرتزل عبد الحميد أن يحتفظ بمناقشاته السرّية معه.

كان السُّلطان عبد الحميد في خلال مقابلته مع هرتزل مستمعاً أكثر منه متكلماً، وكان يرخي لهرتزل في الكلام؛ كي يدفعه أن يتحدّث بكل ما يخطر في مخيلته من أفكار ومشاريع ومطالب، وقد أدى هذا الأمر إلى أن يعتقد هرتزل بأنه نجح في مهمته هذه، ولكنه أدرك في نهاية الأمر أنه قد أخفق مع عبد الحميد، وأنّه أخذ يسيرُ في طريق مسدود معه.

وبعد إخفاق جهود هرتزل عند عبد الحميد الثَّاني، تحدَّث هرتزل قائلاً: "في حالة منح السلطان فلسطين لليهود سنأخذ على عاتقنا تنظيم الأوضاع المالية، أمَّا في القارة الأوروبية؛ فإننا سنقوم بإيجاد حصن منيع ضدّ آسيا، وسوف نبني حضارة ضدّ التخلف، كما سنبقى في جميع أنحاء أوروبا بغية ضمان وجودنا".

وفي الحقيقة كان عبد الحميد يرى أنَّه من الضروري عدم توطين اليهود في فلسطين، كي يحتفظ العنصر العربي بتفوقه الطبيعي. وفي هذا الصّدد يقول "ولكن لدينا عدد كافٍ من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوّقا؛ علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين، وإلا فإنّ اليهود إذا استوطنوا أرضاً؛ تملّكوا جميعَ قدراتها خلال وقت قصير، ولذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتَّم".

وكانت الدولة العثمانية تسعى في أحيان كثيرة إلى إبعاد اليهود العثمانيين عن أفكار هرتزل والحركة الصهيونية، ومع ذلك فإنها في أحيان أخرى كانت تستخدم لغة التهديد معهم. وفي هذا الصّدد أوضح علي فرُّوخ بك للوسائل الإعلاميّة الأجنبية -بصراحة تامّة- أنه: "لَبعيد من الصّواب أن يقوم الصّهاينة على خلق صعوبات للحكومة العثمانيَّة، بغية إرغامها على تحقيق مصالحهم، ولكنّ هذه الصّعوبات سوف تؤدّي في نهاية الأمر إلى إلحاق الأذى بوجودهم السلمي،… وهذه النقطة واضحة بالنسبة لعلاقة العثمانيين مع رعايا الأرمن؛ لأن قلة من المتمردين الذين قاموا على ارتكاب الخطأ، والحماقة معتمدين إِلى الإرشاد الميكافلي قد أدَّى في نهاية الأمر أن يندموا على ما فعلوه، من دون التوصُّل إِلى أيَّة نتيجة".

وعلى الرَّغم من إخفاق جهود هرتزل عند السُّلطان عبد الحميد؛ كتب قائلاً: "يجب تملُّك الأرض بواسطة اليهود بطريقة تدريجيَّة، دونما حاجة إِلى استخدام العنف، سنحاول أن نشجع الفقراء من السّكان الأصليّين على النُّزوح إلى البلدان المجاورة بتأمين أعمال لهم هناك، مع حظر تشغيلهم في بلدنا. إنَّ الاستيلاء على الأرض سيتمُّ بواسطة العملاء السّريين للشّركة اليهوديّة التي تتولى بعد ذلك بيع الأرض لليهود. علاوة على ذلك تقوم الشركة اليهودية بالإشراف على التجارة في بيع العقارات، وشرائها، على أن يقتصر بيعها على اليهود وحدهم".

وكتب هرتزل قائلاً: "أقرُّ على ضوء حديثي مع السُّلطان عبد الحميد الثَّاني أنَّه لا يمكن الاستفادة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسيّة، أو عن طريق الزّج بها في حروب تهزم فيها، أو عن طريق الزّج بها في مشكلات دولية، أو بالطريقتين معا في آن واحد".

إِنَّ عبد الحميد كان يعرف أهداف الصَّهيونيَّة؛ حيث قال في مذكراته السياسية: "لن يستطيع رئيس الصَّهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره، وقد يكون قوله ستحلُّ المشكلة اليهوديَّة يوم يقوى فيها اليهوديّ على قيادة محراثه بيده، صحيحا، وفي رأيه أنَّه يسعى لتأمين أرض لإِخوانه اليهود، لكنَّه ينسى أن الذَّكاء ليس كافيا لحلّ جميع المشاكل.. لن يكتفي الصَّهاينة بممارسة الأعمال الزراعية في فلسطين، بل يريدون أموراً مثل تشكيل حكومة، وانتخاب ممثّلين، إنّني أدرك أطماعهم جيّدا، لكنَّ اليهود سطحيّون في ظنِّهم أنَّني سأقبل بمحاولاتهم. وكما أنَّني أقدّر في رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي، فإنّي أعادي أمانيهم، وأطماعهم في فلسطين".

وعن القدس يقول عبد الحميد الثَّاني: "لماذا نترك القدس؟.. إنَّها أرضنا في كلّ وقت، وفي كل زمان، وستبقى كذلك، فهي من مدننا المقدّسة، وتقع في أرض إسلامية، لا بد أن تظل القدس لنا".

محمد حرب، العثمانيُّون في التَّاريخ والحضارة، ص 57

 لقد كان غرض السُّلطان عبد الحميد في استماعه إِلى "تيودور هرتزل" معرفة الآتي:

  • حقيقة الخطط اليهوديَّة.
  • معرفة قوّة اليهود العالميَّة، ومدى قوّتها.
  • إنقاذ الدّولة العثمانية من مخاطر اليهود.

 وشرع السلطان عبد الحميد في توجيه أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية لمتابعة اليهود، وكتابة التقارير عنهم، وأصدر إرادتين سنيتين؛ الأولى في 28 يونيو/حزيران 1890، والأخرى في السابع من يوليو/تموز 1890؛ وفي الأولى: "رفض قبول اليهود في الممالك الشَّاهسانيّة"، وجاء في الأخرى: "على مجلس الوزراء دراسة تفرُّعات المسألة، واتخاذ قرار جدّي وحاسم في شأنها".

النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 88.

 واتّخذ السّلطان عبد الحميد الثَّاني كلّ التدابير اللازمة في سبيل عدم بيع الأراضي إلى اليهود في فلسطين، وفي سبيل ذلك عمل جاهداً على عدم إعطاء أيّ امتياز لليهود من شأنه أن يؤدّيَ إلى تغلّب اليهود على أرض فلسطين. ولا بدّ في هذه الحالة أن تتكاتف جهود المنظمات الصهيونية بغية إبعاد السلطان عبد الحميد الثَّاني من الحكم، ويعزّز هذا قولُ هرتزل: "إنّي أفقد الأملَ في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإنَّ اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة، ما دام السّلطان عبد الحميد قائما في الحكم، مستمرَّا فيه".

النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 158.

وتحرَّكت الصّهيونيَّة العالميَّة، لتدعم أعداء السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، وهم المتمرّدون الأرمن والقوميّون في البلقان وحركة حزب الاتحاد والتَّرقي، وللوقوف مع كلّ حركة انفصاليّة عن الدّولة العثمانيَّة.

محمَّد حرب، السُّلطان عبد الحميد الثَّاني ص 234.

المصدر: الجزيرة نت


No Images Available


Related Articles