الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية - 9 - وَضْعُ اليهود في مصر

بقلم: د/ صفوت حسين: كاتب ومحلل سياسي "بتصرف"

الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية

"1936 – 1949"

 

تَمَتَّع اليهودُ في مصرَ بوضع مُتميز خلالَ فترة ما قبل ثورة 1952م، وقد استطاعت مجموعةٌ من العائلات اليهودية التحكمَ في توجيه الاقتصاد المصري مثلُ عائلة رولو ومصيري وعدس وقطاوي وشيكوريل ومزراحي ومنشه، وغيرها من العائلات1.

وقد بَلَغَ من تغلْغُل اليهودِ في الاقتصاد المصري أنّ بعضَ المصانع والمشاريع الاقتصادية في مصر كانت الإدارةُ فيها من المدير إلى ضارب الآلة الكاتبة من اليهود، ولعلَّ بعض الإحصاءات تُوضِّح مدى هذا التغلغُلِ فقد كان 98٪ من رجال البورصة في مصر من اليهود، بالإضافة إلى سيطرتهم على 103 شركات مصرية من مجموع شركات مصر البالغ عددها 308 شركات، إلى جانب مساهمتهم غير المباشرة في بقية الشركات المصرية، ويُمكن القولُ إنَّ اليهودَ كانوا يمثِّلون بالنسبة للاقتصاد في مصر "الشرايينَ بالنسبة للجسم".

وبالإضافة إلى سيطرة اليهود على مختلف مجالات النواحي الاقتصادية، فقد امتدَّتْ سيطرتُهم على مجال الصُّحف فقد أصدروا العديدَ من الصُّحف المختلفة، وبِلُغاتٍ متعددة، إلا أنَّ الأهمَّ من صحفهم هو التحكُّمُ في الصحف الأخرى، ومحاولةُ التأثير عليها من خلال سيطرة اليهود على مجال الإعلانات من خلال شركة الإعلانات الشرقية؛ فقد كانت هذه الشركةُ تستولي على معظم الإعلانات، حيث أنَّ معظمَ المَحال والبنوك والمؤسسات كانت بِيَدِ اليهود وكان مديرُ الشركة يهودياً وكذلك كان معظمُ مديري الإعلانات في الصحف الكبرى من اليهود.

كما كان اليهودُ يُشرفون ويديرون العديدَ من فروع الشركات الأجنبية في مصر، وكانت إعلاناتُ هذه الشركات والمؤسسات تَجِدُ طريقَها إلى شركة الإعلانات الشرقية التي تُرسلها إلى الصُّحف حسب موقِفهم من اليهود وبذلك كان لهذه الشركة تأثيرٌ كبير على الصحف المصرية2.

وفي المجال السياسي فقد عَرَفَتْ مصرُ وزيراً يهودياً هو يوسف قطاوي الذي تولَّى وزارةَ المالية عام 1924م، وقد علَّقَ كاتبٌ يهودي على تولّيه الوزارةَ بالقول: "أنه منذ تعيينِ يوسف الصّديق وزيراً لفرعون مصر لم تَعرِفْ مصرُ وزيراً يهودياً إلا في القرن العشرين اسمه يوسف أيضاً.. هو يوسف قطاوي باشا"، كما احتَلَّ عددٌ من كبار الرأسماليين اليهودِ مقاعدَ في مجلس النواب والشيوخ3.

ومن الملاحَظ أنَّ هذا النفوذَ الكبيرَ لليهود في تلك الفترة لم يكن متناسباً بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال مَعَ نسبتهم العدديَّة؛ فطبقاً للإحصاءات الرسمية فإنَّ عددَ اليهود بَلَغَ في عام 1917م، 59 ألفاً، وفي عام 1927م بلغ 64 ألفاً، وفي عام 1937م بلغ 63 ألفاً، وفي عام 1947م بلغ 66 ألفاً وهو أكبرُ رقمٍ وَصَلَ إليه اليهودُ في تلك الفترة ومع ذلك فإنَّ هذا العددَ لا يُمثِّل نسبةً تُذكر من مَجموع سكانِ مصر الذي كان يَبْلُغ في عام 1947م، 18 مليوناً و 967 ألف نسمة4.

ومن المفارقات أنّه في نفس الوقت الذي كان زعماء الطائفة اليهودية في مصر يستولون على مساحة كبيرة من النفوذ في الطبقات العليا كان شبابُ اليهود يستولون بالكامل على الحركة الشيوعية في مصر، فقد كانت زعامةُ الحركات الشيوعية الثلاثة الفاعلة والنشطة في مصر في ذلك الوقت خاضعةً لليهود وهي: الحركةُ الديمقراطية للتحرر الوطني المعروفة باسم "حدتو"، ويتزعمُها هنري كوريل وهو يهوديٌ من أصلٍ أجنبي وحركةُ "اسكرا" وتعني الشرارةَ، وهي اسم جريدة "لينين" الشهيرة، ويتزعمها هيلل شوارتز وهو يهوديٌ من أصل ألماني، وحركةُ "طليعة الطبقة العاملة" ويتزعمها ريمون دويك، وهو يهوديٌ مصريٌّ، وقد رأت الأحزابُ الشيوعية الثلاثة في حرب فلسطين تحالفَ رأسمالياتٍ يهودية صهيونية مع رأسمالياتٍ إسلامية عربيةٍ تتآمر معاً على الطبقة العاملة هنا وهناك؛ تحاول تعظيمَ أرباحِها بدفع الطرفين إلى قتالِ بعضهما، مع أنَّ فلسطينَ تتسع بالسلام لدولة يهودية على العرب التقدميين القَبولُ بها والتعاونُ معها لصالح السلام العالمي، وانتصارٌ للأممية تحت الرايات الحمراء للشيوعية الدولة5.

وإذا كانت الأحزابُ الشيوعية قد أيَّدت التقسيمَ وإنشاءَ دولتين إحداهِما عربية وأخرى يهودية فإنه من الصعب الجزمُ بأنَّ هذا الموقفَ راجعٌ فقط إلى تأثير اليهود وزعامتهم لهذه الأحزاب، بل يجب -مراعاةً للدقة العملية- مقارنةُ موقف الحركة الشيوعية العالمية من القضية الفلسطينية وكذلك موقف الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى من هذه القضية مع موقف الأحزاب المصرية وكذلك تحليل مواقف زعماء الحركة الشيوعية في مصر وكتابتهم بهذا الصدد، وهو أمرٌ خارج سياق هذه الدراسة.

ومِنْ هذا العرض السريع لوضع اليهود في مصر يتَّضح ما بَلَغَهُ اليهودُ من قوة وازدهار في تلك الفترة، في كثير من المجالات، وبصفةٍ خاصة المجال الاقتصادي، إلا إنه ينبغي الإشارةُ إلى أنّ ما حقّقه اليهود في مصر من قوة اقتصادية يعود في بعض أسبابه إلى استفادتهم من الامتيازات الأجنبية حيث أقْبَلَ اليهودُ على التجَنُّس بجنسيات الدول الأجنبية التي كانت تتمتَّع بهذه الامتيازات في مصر، وقد ساعدت هذه الامتيازاتُ على تزايد النفوذ الاقتصادي لليهود بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التعليم بين يهود مصر وتشجيع السلطات الحاكمة في مصر لهم، وتوثيق اليهود في مصر لعلاقتهم بالمؤسسات التجارية في الخارج، هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى خاصة بالمجتمع المصري.

وقد أدّى احتكارُ اليهود في مصر للنشاط الاقتصادي إلى الإضرار بالمصريين، ومع ذلك لم يتضرر المصريون من ذلك إلا في الأربعينيات، ولم تجرؤ أيةُ صحيفة على الشكوى من اليهود إلا في فترة متأخرة، فقد لجأت المؤسساتُ اليهودية إلى تخفيض مكافآت العمل للمصريين، والى فصل العمال دونَ أيِّ مبرر، والتهرّب والتحايل على الحقوق التي أعطاها القانون للعمال.

ومِن الملاحَظ أنّه لمْ يحدُث أيُّ اضطهاد أو معاملة سيئة من جانب المصريين في مصر ضدَّ اليهود إلا خلالَ فترة الأربعينيات مع تزايد الوعي بخطورة المشكلة الفلسطينية، وقد تزايد كُرْهُ المصريين وبغضُهم لليهود مع احتدام مشكلة فلسطين كما كان للعامل الاقتصادي دورٌ كبير في هذه الكراهية نظراً لسيطرة اليهود على الاقتصاد المصري6.

النشاط الصهيوني في مصر:

كانت مصرُ مركزاً هامّاً وبؤرةً للنشاط الصهيوني، وقد بدأ النشاطُ الصهيوني في مصر متواكباً مع الحركة الصهيونية ففي عام 1897م -وهو نفسُ العام الذي عُقد فيه مؤتمرُ "بال"- تَمَّ تأسيسُ أولِ جمعية صهيونية في القاهرة حملت اسمَ "باركوخابا"7.

وقد تصاعَد النشاطُ الصهيوني منذ ذلك الحين، وأصبحت القاهرةُ مركزاً هامّاً للنشاط الصهيوني، وليس هدفُ هذا البحث التعرُّضَ بالتفصيل لهذا النشاط وإنما توضيح –فقط- أهمّ ملامح هذا النشاط وخطورته، وتقويم الدور الذي قام به اليهود في دعم الصهيونية.

ففي عام 1917م استطاع "ليون كاسترو" أنْ يؤسِّسَ أولَ فرع للمنظمة الصهيونية العالمية تحت اسم "منظمة الصهيونيين بمصر"، وفي عام 1918م أصدرت "المجلةَ الصهيونية"، كما تمَّ افتتاحُ العديدِ من الفروع لهذه المنظمة في المدن المصرية بهدف نشر المبادئ الصهيونية بين الجماهير اليهودية في مصر، والمساعدة في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وقد استقبَل اليهودُ في مصر تصريحَ بلفور بابتهاجٍ وفرح شديد، وأقاموا الاحتفالاتِ في الإسكندرية وطنطا والتي حضَرَها العديدُ من يهود مصر، وقد ساعَد على تزايد النشاط الصهيوني في مصر رفعُ حزب الوفد لواءَ القومية المصرية، وشعارَ الوحدة الوطنية والتسامحَ الديني، ورفْضَ أيّةِ محاولة للتفريق بين جماهير الشعب على أساس الدين، وقد استفاد اليهودُ من ذلك وبادَرَ بعضُهم للانضمام إلى حزب الوفد والتغلغل بين صفوفه لدرجة أنَّ ليون كاسترو مؤسسَ المنظمة الصهيونية في مصر أصبح السكرتيرَ الخاص لسعد زغلول وصَحِبَه في مفاوضاته إلى أوربا، وقد أدّى ذلك لاستفادة الحركة الصهيونية، فقد كانت صداقتُه لسعد زغلول تعني عدمَ تعارض النشاط الصهيوني مع النضال الوطني المصري، وبالتالي حرية الحركة للصهيونيين وإضفاء المظهر الوطني عليهم8.

وقد تردَّد العديدُ من قادة الحركة الصهيونية العالمية على مصر، الأمر الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في مضاعفة النشاط الصهيوني، ومن أبرز القادة الصهيونيين الذين ترددوا على مصر "حاييم وايزمان"، و"ناحوم سوكولوف" و"موسى شرتوك" الذي تولى رئاسةَ وزراء الكيان الصهيوني، وقد اشتمل برنامجُ هذه الزيارات على عَقْدِ الاجتماعاتِ وإلقاء المحاضرات ولقاء كبار الرأسماليين اليهود وحاخام اليهود، وبعض السياسيين المصريين، ومن ذلك لقاء سولوكوف في فبراير 1933م للملك فؤاد بقصر عابدين، وكمثالٍ على محتوى هذه الزيارات ما قام به وايزمان أثناء زيارته لمصر 1935م حيث أُقيمَ احتفالٌ حَضَرَه كبارُ المشتغِلين بالحركة الصهيونية من يهود مصر تحدّثَ فيه وايزمان مُنوهاً بمساعي الحاخام الأكبر حاييم ناحوم من أجل مؤازرة كبار أعيان الطائفة في مصر للصهيونية، وقد تحدَّث ناحوم وأعلَنَ رغبتَه الأكيدة في الاشتغال بالحركة الصهيونية في مصر وقد كان لهذه الزيارات أثرٌ كبير في مضاعفة النشاط الصهيوني في مصر، ومسارعة اليهود إلى التبرع، وإنشاء فرع للصندوق القومي لليهود لجمع التبرعات وإرسالها إلى الوكالة اليهودية في فلسطين لشراء الأرض9.

ومن مظاهر النشاط الصهيوني قيامُ اليهود في مصر بإنشاء مستعمرة في فلسطين باسمهم وإهدائها إلى المهاجرين المستوطنين، وقد كلّفت هذه المستعمرة 30 ألف جنيه مصري وافتُتحت رسمياً عام 1933م وأطلق عليها اسم "كفار جوديا" أي القرية اليهودية10.

وخلال الحرب العالمية الثانية شهدت مصرُ نشاطاً واسعاً وعميقاً للنشاط الصهيوني حيث كانت تعجُّ جيوشُ الحلفاء في مصر باليهود الذين ملأت الأفكار الصهيونية المتعصبة عقولَهم، ولقد تلقَّفتْهم المنظمةُ الصهيونية في مصر، ويسَّرت لهم سُبُلَ الالتقاء بالطائفة اليهودية لرسم الخُطط من أجل التعاون وتحقيق الأهداف الصهيونية، وقد أسَّست المنظمةُ عام 1941م لجنةً باسم "اللجنة اليهودية للترفيه عن البحّارة والجنود والطيارين" مَهمَّتها إقامة النوادي الترفيهية للجنود اليهود وكان على رأس اللجنة الرأسمالي اليهودي الكبير أوفاديا سالم وقد أصبحتْ هذه النوادي مركزاً للنشاط الصهيوني11.

كما كان لجهاز مخابرات المنظمة العسكرية الصهيونية "الهاجاناه" المعروف باسم "علياه بيت" شبكةٌ في مصر وكان مهمَّتها الحصولَ على شيء من احتياطي السلاح الكبير الذي كان يُكَدِّسه الحلفاءُ في مصر، وكذلك الحصول على المعلومات وقد قام عملاء الهاجاناه بتأجير "فيلا" خارجَ الإسكندرية كمنتجع صحي لجنود الحلفاء في الظاهر ولكنها كانت في الحقيقة قاعدةً لعمليات تهريب وتسهيل هجرة اليهود لفلسطين12.

ولم يتوانَ زعماءُ الصهاينة في مصر عن جَمْع المزيد من المال وإرسال حصيلته أولاً بأول إلى فلسطين، ومع صدور قرار التقسيم في نوفمبر 1947م وقُرب قيام الكيان الصهيوني ازداد حماس يهود مصر وأخذوا يعبرون عن ذلك مطالبين الإنجليزَ بسرعة الجلاء لإتمام قيام دولتهم وتسهيل هجرة يهود مصر والعالم إليها13.

ومع تصاعد الأحداث وظهور نذر الحرب فإنَّ الوجودَ اليهودي شِبهَ العسكري كان ما يزال يدُبُّ على أرض مصر خصوصاً في عمليات تجنيد وتدريب شباب من اليهود تحت إشراف منظمات نشطة. كما اخترَقَ اليهودُ في مصر القصرَ الملكي وكانتْ قرينةُ يوسف قطاوي زعيمِ الطائفة اليهودية في مصر كبيرةَ وصيفات القصر الملكي في مصر أيامَ الملكة نازلي وحتى 1948م، وكانت تقوم بجمع التبرعات والمساعدات لنجدة اللاجئين اليهود ومساعدتهم على الذهاب إلى فلسطين، كما كان الملك على علاقة بيهودية هي ايرين كيونيللي ويهوديةٍ أخرى تدعي يولندا هامر14.

وفي الوقت الذي كان يقوم فيه يهودُ مصر بدعم الصهيونية وتحقيق أهدافها فقد قاموا بمحاولات متعددةٍ لإبعاد مصرَ عن الصِّراع في فلسطين فكَتبت الصحفُ اليهودية تُعَبِّر عن هذا الاتجاه، وعملت على تشجيع التقارب بين مصر واليهود في فلسطين في جميع النواحي كما عمِل اليهودُ على التأثير على شركة الإعلانات الشرقية بالإضافة إلى ملكية اليهود لمعظم المحال والمتاجر؛ فكان اليهود يلجؤون إلى منح ومنع الإعلانات حسب اتجاهات الصحف منهم، وقد حاوَل اليهودُ استخدامَ هذا السلاح مع أحمد حسين عن طريق منح العديد من الإعلانات لصحيفة مصر الفتاة للتأثير على موقفها من اليهود، كما ذكر الصحفي حافظ محمود أنّ جريدة السياسة الأسبوعية تعرَّضت للعديد من الصعوبات في الحصول على ورقِ وحبرِ الطباعة بعد نَشْرها مقالاً مناهضاً للصهيونية، وأنَّ أصابعَ الصهيونية كانت وراء ذلك.

كما عمِلت الهيئاتُ اليهودية في مصر على متابعة ما يُكتب في الصحف المصرية عنهم، وتصحيح ما يرون أنها معلوماتٌ خاطئة تمسهم، وتشجيع الصحف التي تظهر عطفاً عليهم كما لجأ اليهود للتغلغل في الصُّحف التي وجدوا صعوبة في التحكم فيها وتغير اتجاهاتها ولذلك نجد العديد من اليهود تولوا مناصبَ في الكثير من المؤسسات الصحفية في مصر خاصةً منصبَ مدير الإعلانات15.

ومن المهمّ التوقّفُ عند شخصية الحاخام حاييم ناحوم الذي تولى منصبَ الحاخام في مصر عام 1921م، بعد أنِ انتقل إليها من تركيا حيث كان يشغل منصبَ حاخام اسطنبول، وقد أصبحَ حاييم ناحوم بعد شهور من وصوله مصر صديقاً ومستشاراً للملك فؤاد، وتَم تعيينُه عضواً في مجلس الشيوخ، ثُم عضواً في مجمع اللغة العربية وصديقاً مؤثراً على النّخبة السياسية والفكرية في مصر داخلَ القصر الملكي وخارجَه، ويرى محمد حسنين هيكل أنَّ من المُرَجَّح أنّ ناحوم كان يُعارض فكرةَ إقامة دولةٍ يهودية، وأنّه لم يكن لديه صورةٌ حقيقية عن مطالب الصهيونية الحديثة، بينما نَجِدُهُ في كتاب المفاوضات السِّرِّية يَطرحُ تساؤل "هل كان يهودُ مصر من دعاة إنشاء إسرائيل لتكونَ وطناً قومياً لليهود؟، وهل كان في خيالهم أن تَصِلَ الأمورُ إلى ما وصلتْ إليه من علاقات مع مصر؟".

ويرى في الجواب على هذا السؤال أنّه ربّما كان الأقربُ للحقيقة هو القولُ بأنَّ يهودَ مصر كانوا متعاطفين مع فكرة هجرة اليهود إلى فلسطين، ولكنهم كانوا يحبون حياتهم في مصر، ولا يريدون استبدالها بأي حياة أخرى، وأنَّ مِنَ المحتمل أنَّ بعضَ اليهود المصريين لم يَجِدوا تضارباً في الولاء بين رغبتهم في قيام دولة يهودية، وبين حياتهم في مصر التي تمتَّعوا فيها بحياةٍ يَصْعب عليهم أنْ يجدوها في مكان آخر، وأنَّ الحاخام ناحوم كان يُقِرُّ بحقِّ اليهود في تأسيس دولةٍ لهم في فلسطين، إلا أنّه يَنصحُ كُلَّ الأطراف بالحذر، لدرجةِ أنَّه طلبَ موصيري باشا أنْ يُلفت نظر ممول يهودي كبير هو "ليون كاسترو" أنْ يهدأ قليلا في جمع التبرعات للحركة الصهيونية لتجنّب إحراج اليهود في مصر "وهو أمر لا لزوم له الآن".

بل إنّ ناحوم في لقاء مع الملك فاروق حاول أنْ يُقنعَ الملكَ بأنَّ القدسَ حقٌّ لليهود وأنّ " المسيحيين تركوا القدس وذهبوا إلى روما، والمسلمين غيروا توجههم إليها وتحولوا إلى مكة، وأمّا اليهود فقد بقوا طول العمر يبكون ضياعها"16.

ومن الواضح من العرض السابق للنشاط الصهيوني ليهود مصر أنّهم عَمِلوا على إنشاء دولةٍ لليهود في فلسطين، وأنّهم دعموا المشروعَ الصهيوني، أمّا عنْ عدم رغبة اليهود في مصر في الهجرة منها واستبدالها بأي حياة أخرى، فهو أمر يمكن تصوره نظراً لموقعهم المتميز في الحياة المصرية، ولكن في النهاية فإنَّ مساندَتَهم للحركة الصهيونية وإنشاء دولة لليهود في فلسطين كان يعني اتخاذَ موقفٍ عدائي لمصر وتهديدا لأمنها القومي.

ومن المهمِّ الإشارةُ إلى أنَّ النشاطَ الأيديولوجي لليهود في مصر لم يكن قاصراً على الصهيونية فقط، فقد انقسم النشاطُ الفكري لليهود إلى قسمين:

القسم الأول: يتجه إلى أقصى اليمين "الصهيونية".

القسم الثاني: يتجه إلى أقصى اليسار "الشيوعية".

وكانت العناصرُ التي تقوم بالنشاط الصهيوني هي العناصرُ الرأسمالية، بينما كانت العناصرُ التي تقوم بالنشاط اليساري تتألَّفُ من عناصرَ عُمّالية وثقافية17.

وإذا كان الاتجاهُ الصهيوني يعمل على إنشاء دولة يهودية فإنّ اليساريين لم يكونوا يروا هناك مشكلةً ليهود فلسطين، وأنّ المشكلةَ خلقتها الصهيونيةُ خلال فترة نشاطها، وأنّ حلَّ المشكلة يَنبع في الكفاح المشترك بين اليهود والعرب للتخلص من الاستعمار الأنجلو أمريكي متمثلاً في الحركة الصهيونية، وقد أدى الخلافُ بين الاتجاهين إلى قيام الاتجاه اليساري بتكوين الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية، والتي هدفت للكفاح ضد الدعاية الصهيونية والعملِ على توثيق العلاقة بين يهود مصر والشعب المصري، وقد اقتصرت عضويةُ الرابطة على اليهود فقط؛ لأنها تَعتبر نفسَها حركةً يهودية تعمل بين الجماهير اليهودية فقط، ولم تستمِر هذه الرابطة سوى أسابيع حيث قامت حكومةُ النقراشي بحلِّها بدعوى الحفاظ على النظام والأمن العام، ويبدو أنّ الهدفَ من حَلِّها منعُ أي نشاط يساري في مصر لمنع انتشار الأفكار الشيوعية في البلاد.

وقد أدّى تكوينُ الرابطة إلى وقوع صدام بين الصهيونيين بزعامة كليمان شيكوريل ومجموعة من اليهود المعارضين للصهيونية، والذين كانوا يسيطرون على النادي المكابي بالقاهرة، حيث استطاع شيكوريل تعيينَ مجلس إدارة لهذا النادي من الصهيونيين.

وهكذا وبالرغم من وجود يهود معارضين للحركة الصهيونية في مصر إلا أنهم كانوا أقليةً من حيث الكَمّ، بينما كانت الصهيونيةُ -يساندها اليهود الرأسماليون- أصحابَ النفوذ في البلاد فضلاً عن أنّ المعارضين للصهيونية لم يُقَدَّرْ لهم الاستمرارُ في معارضتهم نظراً لانحسار المعارضة في اليهود اليساريين18.

ومن الواضح ضآلةُ عدد اليهود المعارضين للصهيونية وانحسارها في اليهود اليساريين، والذين تزعَّموا وانضموا للحركة الشيوعية، كما أنّ تصورَهم للمشكلة الفلسطينية لم يكنْ تصوراً صحيحاً أو عملياً، ولم يختلفْ موقفُهم في النهاية عن موقف الصهيونية فقد أيَّدَت الأحزابُ الشيوعية -والتي كان يسيطر عليها اليهود- مشروعَ التقسيم وإنشاءَ الدولة اليهودية.

وهكذا يتَّضح مدى النفوذ الذي بَلَغَه اليهودُ في مصر خاصةً في المجال الاقتصادي والجهود التي قاموا بها لتأييد ومساندة الصهيونية؛ بحيث كانت مصرُ مركزاً هاماً للنشاط الصهيوني، ومن الملاحَظ أنّ هذا النشاطَ استمرَّ وتزايَدَ منذ بدايته حتى عام 1948م، وإنْ كان من الممكن تلَمُّسُ العذر لهذا النشاط في البداية حيث كان موقفُ مصر الرسمي غيرُ واعٍ بخطر الصهيونية فإنّه ليس هناك مبرِّرٌ لهذا النشاط بعد تبنّي مصرَ سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي للقضية الفلسطينية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حسن البنا : مذكرات، صـ81- 82.

(2) أحمد محمد غنيم وأحمد أبو كف: اليهود والحركة الصهيونية في مصر 1897- 1947، دار الهلال، القاهرة، صـ51.

(3) سعيدة محمد حسني: اليهود في مصر 1881- 1948، الهيئة العامة للكتاب، 1993، صفحات، 35- 36، 143- 146.

(4) أحمد محمد غنيم وأحمد أبو كف: المرجع المذكور، صـ27- 28.

(5) مصلحة الإحصاء والتعداد: الإحصاء السنوي للجيب لإقليم مصر. القاهرة، 1959، صـ12.

(6) محمد حسنين هيكل : المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، الكتاب الأول، ط6، دار الشروق، القاهرة، 1996، صفحات 158، 162، ولنفس الكاتب: العروش والجيوش أزمة العروش صدمة الجيوش،ج2، دار الشروق، القاهرة، 2000، صـ93- 94.

(7) سعيدة محمد حسني: المرجع المذكور، صفحات 36- 47، 67- 70.

(8) نفس المرجع، ص 169، 170.

(9) سهام نصار: المرجع المذكور، صـ13-35.

(10) سعيدة محمد حسني: المرجع المذكور، صـ181- 183.

(11) محمد حسنين هيكل : المفاوضات، صـ155.

(12) أحمد محمد غنيم وأحمد أبو كف: المرجع المذكور، صـ88- 89.

(13) سهام نصار: المرجع المذكور، صـ28.

(14) نبيل عبد الحميد سيد أحمد، اليهود في مصر بين قيام إسرائيل والعدوان الثلاثي 1948-1956، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1991، صـ40- 41.

(15) محمد حسنين هيكل : العروش والجيوش، صـ111- 112، ولنفس المؤلف: المفاوضات السرية: صـ161.

(16) سهام نصار: المرجع المذكور، صـ37- 44.

(17) محمد حسنين هيكل : ملفات السويس، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1986، صـ103، وكتاب المفاوضات السرية، صـ151- 161.

(18) عبد العظيم رمضان: صراع الطبقات في مصر، مكتبة الأسرة، القاهرة، 1997، صـ49.


No Images Available


Related Articles