مقاومة الرباط ... جهاد المقدسيين.

 خالد أبو عرفة / وزير شؤون القدس السابق

يَفْخَرُ المقدسيون بمقاومة الاحتلال من خلال "الرِّباطِ والمرابطة"، وأن يُقال لهم "المرابطون"، وهي الصفةُ التي صار القاطنون في مدينة القدس يوصَفون بها بشكل عام. وكان هذا التعبيرُ قد أُطلقَ أواخرَ التسعينيات من القرن الماضي على المعتكفين في المسجد الأقصى المبارك أثناءَ مواجهة اقتحامات الاحتلال والمستوطنين، ثمَّ غدا إطلاقُه على كافّة المقدسيين الرازحين تحت آلة الاحتلال القمعية.

تعبير "الرباط" توجيهٌ قرآنيٌّ ونبويٌّ شريف، يوافِق معنى الصبر ويلازمُه أحياناً، جاءَ في الكتاب العزيز قولُه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} آل عمران 200.

وهو كذلك تعبيرٌ مقرونٌ بالمقاومة والجهاد، وذلك في قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}الأنفال 60. وكذلك قوله تعالى: {وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} الأنفال 11.

كذلك جاء في السنة النبوية قولُه صلى الله عليه وسلم: "رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضِعُ سَوْطِ أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، بل هو خيرٌ من صيام شهر وقيامه، ورباطُ شهرٍ خيرٌ من صيام الدهر".

ولا يكاد حيٌّ أو قريةٌ أو شارعٌ في مدينة القدس، إلا وشَهِدَ خياماً للتّحدي والصّمود في وجهِ سياساتِ الاحتلال، الهادفةِ إلى مصادرة الأراضي أو هدمِ البيوت أو تهجيرِ السّكان أو بناءِ الجدار العازل. كما لا يكادُ حيٌّ أو قريةٌ أو شارعٌ إلا وشَهِدَ خياماً للعزاء بالشهداء، أو غيرَ ذلك من المبرِّراتِ التي دفَعَت المقدسيين لانتهاج أسلوبِ خيام الاعتصام أو الاحتجاجِ والصمود.

ومِنْ أبرزِ هذه الخيام (خيمةُ اعتصام النواب المَقْدسيّين)، التي نصبها النائبان "أحمد عطون ومحمد طوطح"، إضافةً إلى -كاتب السطور-الوزيرِ السابق خالد أبو عرفة، في مقرِّ المنظمة الدولية للصليب الأحمر في حيِّ الشيخ جراح، ما بين 1/7/2010- 23/1/2012م، احتجاجاً على إلغاء سلطات الاحتلال بطاقاتِ إقاماتهم، إضافةً إلى إلغاء إقامةِ رابعٍ هو النائبُ المقدسي الشيخ محمد أبو طير، وذلك بحجة اشتراكهم في المجلس التشريعي الفلسطيني والحكومة الفلسطينية العاشرة التي شكلتها حركة حماس في العام 2006م، بذريعة "عدم ولاء المذكورين الأربعة لدولة إسرائيل" حسبما جاء في قرار وزير الداخلية الإسرائيلي الأسبق "روني بار أون"، واستمرَّ الاعتصامُ 570 يوماً دونَ انقطاعٍ إلى أنِ اقتحمت قواتُ الاحتلالِ الخيمةَ واعْتَقَلَت المعتصمين الثلاثة.

ومن أهمِّ أشكال الرّباط -ما اعتادَه الفلسطينيون في مدينة القدس- التعبيرُ عن رفضهم للانتهاكات المستمرةِ في حقِّ المسجد الأقصى بوسائلَ عديدةٍ، بدءاً بالتنديد والاستنكار من خلال خطب صلوات الجمعة والبيان والمنشور، وكذلك عَقْدِ الندوات والمؤتمرات الصحفية، إضافةً لتسيير المظاهرات وحشدِ الاعتصامات.

وفي مقابل الإجراءات الإسرائيلية الأسبوعية المتكررة الهادفةِ إلى التضييق على المصلين، دَرَجَ المصلون في المسجد الأقصى على مقاومة هذه الإجراءاتِ بأشكالٍ متنوعة من النشاطات، حيث يَخرج الناشطون منهم فورَ انتهاء الصلاة في مسيرة حاشدة تندد بالاحتلال وإجراءاته، وتنادي بالدفاع عن المسجد وحرمته، وتهتف تأييداً للمقاومة واستنكاراً للاحتلال ولأمريكا، وربّما حرق المتظاهرون أعلاماً إسرائيليةً وأمريكية، ثُمَّ يُعَرِّجُ بعضُهم تجاهَ السور الغربي حيث تقع خلفَه ساحةُ البراق المحتلة، حيث يحتشد هناك عادةً مئاتُ الجنود الإسرائيليين، بهدف اقتحام المسجد وملاحقة المرابطين. ولأنَّ المسجدَ الأقصى مهوى أفئدة العرب والمسلمين، فإنَّ مُجرَّد مسيرة أو احتجاجٍ داخلَ ساحاتِه، سريعاً ما تَجِدُ صداها في الأراضي الفلسطينية والشتات. وقد تَضاعَف التأثيرُ مئاتِ المراتِ في أعقاب تطوّر وسائل الإعلام واختراعِ شبكات التواصل الاجتماعي.

 

المقالة من كتاب "حسن القيق... صفحات مقدسية مضيئة/ أضواء على الحركة الإسلامية في بيت المقدس" للمؤلف.


لا يوجد صور متاحة


مقالات أخرى قد تهمك