الإخوان المسلمون والقضية الفلسطينية
"1936 – 1949"
أهم الانتقادات الموجهة لرؤية الإخوان المسلمين للقضية الفلسطينية:-
يُعدُّ أهمُّ انتقاد مُوجَّه لرؤية الإخوان للقضية الفلسطينية هو القولُ باعتبارهم الصراعَ في فلسطين صراعٌ بين اليهودية والإسلام وما يترتب على ذلك من تهديد للوحدة الوطنية1.
وأنَّ الإخوانَ ساهموا في إذكاء مشاعرَ عنصريةٍ ضدَّ اليهود المصريين وحاولوا تحويل المعركة من عربٍ ضد استعمار وصهيونيةٍ إلى مسلمين ضدَّ يهود2.
وأن نغمةَ العنصرية تتردَّد في أغلب كتاباتِ صحيفة الإخوان خصوصاً عند التحدُّث أو الإشارة إلى الصهيونية واليهود "إنّ الصهيونيةَ أقذرُ شعب وُجد على ظهر الأرض، وهم مجموعةٌ من الخونة والمخربين" وأنّ الخَلطَ يبدو واضحاً بين اليهودية كدينٍ والصهيونية كحركةٍ سياسية في معظم كتابات صحيفة الإخوان "كل يهودي صهيوني وكل صهيوني يهودي"3.
هذه الآراءُ والانتقاداتُ التي توَجَّه للإخوان يبدو في كثير منها الخلطُ وعدمُ تحديدِ المعاني بصورة واضحة، فضلاً عن تجاهل المبررات التي ساقها الإخوانُ لتبرير بعض آرائهم وبصفة خاصة فيما يتعلق بعدم التفريق بين اليهودي والصهيوني.
ففيما يتعلق باعتبارهم الصراعَ في فلسطين بأنّه صراعٌ بين اليهودية والإسلام، فنجد حسنَ البنا يُقرر بوضوح "أنّ الأنبياء جميعاً مبلِّغون عن الله تبارك وتعالى، وأنّ الكتبَ السماوية جميعاً من وَحْيه، وأنّ المؤمنين جميعاً -في أيَّةِ أمةٍ كانوا- هم عبادُه الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة، وأنّ الفُرقة في الدين والخصومة باسمه إثمٌ يتنافى مع أصوله وقواعده".
فالمسلم يجب عليه أنْ يُؤمنَ بكل نبي سَبَقَ ويُصَدّق بكل كتاب نَزَل، ويحترمَ كلَّ شريعة مضت ويُثني بالخير على كلّ أمّة من المؤمنين خَلَتْ، والقرآنُ يفترِض ذلك ويُعلنه ويأمر به النبيَّ وأصحابَه: {قْولُوا آمَنَّا باللهِ وَمَا أنْزلَ إلَيْنَا وَمَا أنْزلَ إلىِ إبْرَاهِيمَ وَإسمْاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقوب وَاْلأسْبَاطِ وَمَا أوتِيَ مُوسَى وَعيسَى وَمَا أوتِيَ النَّبيُّونَ مِنْ رَبِّهمْ لا نُفرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} البقرة: 136.
إنّ القرآنَ يُثني على الأنبياء جميعاً فموسى نبيٌ كريم {وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً} الأحزاب: 69. وعيسى عليه السلام {رسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهً ألْقاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} النساء: 171. والتوراة كتابٌ كريم {إنَّا أنْزَلْنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} المائدة: من الآية 44، والإنجيلُ كذلك كتاب كريم فيه هدى ونور وموعظة {وَآتَيْنَاهُ اْلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظة للْمُتَّقينَ} المائدة: 46، وهما والقرآنُ معهما مصابيحُ الهداية للناس {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأنْزَلَ التَّوْرَاة واْلإِنْجِيلَ} آل عمران: 3.
وبنو إسرائيل أمةُ موسى أمةٌ كريمة مفَضلَة ما استقامت وآمنت {يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ عَليْكُمْ وَأنِّي فضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالمِينَ}. البقرة: 47.
وأمّة عيسى عليه السلام أمةٌ فاضلة طيبة ما أخلصت وعملت {وَجَعَلْنَا فِي قلُوبِ الَّذيِنَ اتَّبَعُوهُ رَأفة وَرَحْمَة وَرَهْبَانِيَّة ابْتَدَعُوهَا} الحديد: 27. 4
إن هذه الأقوالَ لحسن البنا توضح بجلاءَ أنّ الإخوان المسلمين لم ينظروا للصراع في فلسطين على أنّه صراعٌ بين اليهودية والإسلام، بل نظروا لليهودية كدينٍ سماوي، والتوراة ككتاب منزل رغم ما أُدخل عليه من تحريف وتبديل وأنّ المسلمَ مطالَب بأنْ يؤمِن بالكتب والرسل السابقة قبل رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هذا موقفُ الإخوان من اليهودية كدين فما هو موقفهم من اليهود؟
لقد أوضحَ حسنُ البنا موقفَ الإخوان من غير المسلمين بصفة عامة من أهل الكتاب "المسيحيين واليهود" أو غيرهم وفق القاعدة القرآنية {لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلمْ يُخْرجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أنْ تَبَرَّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهْمْ إنَّ إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَTاللهَ يُحِبُّ الْمْقسِطين قاتلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأخْرَجُوكُمْ مِنْ دِياركُمْ وَظاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الممتحنة 8, 9.
فالتعامل بين المسلمين وبين غيرهم من أهل العقائد والأديان يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني، ومن الملاحَظ أنّ الآيةَ تأمر بالبر والإحسان ولا تقتصر على الحماية فقط، كما أنّها حدَّدت تحديداً دقيقاً "من يحق لنا أن نناوأهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم". ويؤكّد الإخوان على الوحدة الوطنية وأنهم ليسوا دعاةَ تفريقٍ عنصري بين طبقات الأمة، وقد أوصى الإسلامُ بإنصاف الذمّيين وحُسْن معاملتهم "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
"نعلم كل هذا فلا ندعو إلى فرقة عنصرية ولا إلى عصبية طائفية، ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا ولا نهدر من أجلها مصالحَ المسلمين، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف والعدالة وكفى، فمن حاول غيرَ ذلك أوقفناه عند حدِّه وأَبَنَّا له خطأَ ما ذهب إليه"5.
وقد حرص الإخوانُ على الالتزام بهذا الإطار الفكري من خلال رؤيتهم لموقف الإسلام من غير المسلمين، وقد اتَّسم موقفُ جماعة الإخوان من الأقباط بصفة عامة بالاعتدال، كما حرص حسنُ البنا على طمْأنة المسيحيين، واتَّخذ عدةَ خطوات في هذا الصدد للتدليل على حسن نوايا الإخوان نحوهم6.
وإذا كان موقفُ الإخوان واضحٌ بهذا الوضوح رؤيتَهم للأقليات فلماذا اتَّسم موقفهم بالعداء نحو اليهود في مصر؟.
إنّ الإجابةَ على هذا السؤال تتطلب الإلمامَ بوضع اليهود في مصر وموقفهم من الحركة الصهيونية، حتى تتضح حقيقةُ دوافع الإخوان من اليهود، وإنها لم تنطلق من خصومة دينية كما قد يظن البعضُ؛ فالقاعدةُ القرآنية التي التزمَ بها الإخوانُ تنطبق على أهل الكتاب سواءً من المسيحيين أو اليهود، بل إنّ الآيةَ تتَّسم بالعموم وتشملُ غيرَ المسلمين أياً كان دينُهم وملتهم، فالإخوان لم ينطلقوا في عدائهم ضدَّ اليهود في مصر من منطلق الخصومة الدينية.
وقد عبّر عن ذلك حسنُ البنا بوضوح: "إن خصومتنا لليهود ليست دينيةً لأنّ القرآنَ الكريم حثَّ على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعةٌ إنسانية قبل أن يكون شريعةً قومية، وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقاً {وَلا تُجَادَلُوا أهْلَ الْكِتَابِ إَّلا باَّلتِي هِيَ أحْسَنُ} العنكبوت: 46. 7
فالعداءُ بين الإخوان واليهود جاء على خلفيةِ القضية الفلسطينية، وموقفِ يهودِ مصرَ المساندِ للحركة الصهيونية، ولم ينبع مِنْ خصومة دينية، بل إنَّ مِنَ الأشياء الطريفة التي يرويها حسنُ البنا في مذكراته أنه كان يقيم بالإسماعيلية في منزلٍ من ثلاثة أدوار كان يستأجر الدورّ الأوسطَ مجموعةٌ من المواطنين المسيحيين اتخذوا منه نادياً وكنيسة، وفي الدور الأسفل مجموعةٌ من اليهود اتخذوا منه نادياً وكنيسة، بينما كان يقيم حسنُ البنا ورفيقُه في الدور الأعلى حيث اتخذوا من هذا السكن مصلى، فكان المنزل يمثل الأديانَ الثلاثة وكانت "أم شالوم" سادنةُ الكنيسة تدعو البنا ورفيقَه كلَّ ليلة سبت ليضئ لها النور ويساعدَها في "توليع وابور الجاز".
"وكنا نداعبُها بقولنا: إلى متى تستخدمون هذه الحيل التي لا تنطلي على الله؟ وإذا كان الله قد حَرَّمَ عليكم النورَ والنارَ يومَ السبت كما تدَّعون؟ فهل حَرَّم عليكم الانتفاعَ أو الرؤية؟ فتعتذر وتنتهي المناقشة بسلام"8.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المرجع، صـ58- 59، إبراهيم البيومي غانم: المرجع المذكور، صـ479.
(2) طارق البشرى: الحركة السياسية في مصر 1945 - 1952، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1972، ص 251، سهام نصار: اليهود المصريون بين المصرية والصهيونية، دار الوحدة بيروت، 1980، صـ35، عواطف عبد الرحمن: مصر وفلسطين، عالم المعرفة، الكويت، 1980، صـ318- 319.
(3) رفعت السعيد: حسن البنا متى وكيف ولماذا؟، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1999، صـ203.
(4) عواطف عبد الرحمن: المرجع المذكور، صـ297.
(5) حسن البنا : السلام في الإسلام، صـ23- 26.
(6) نفس المرجع، صـ27-28، حسن البنا : الرسائل، رسالة دعوتنا، صـ19- 20، رسالة نحو النور، صـ69- 70، رسالة إلى الشباب، صـ89.
(7) لمزيد من التفاصيل حول علاقة الإخوان بالمسيحيين انظر زكريا سليمان بيومي: الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية 1928 -1948، مكتبة وهبة، القاهرة، 1979، صـ311، 314، عبد الفتاح العويسي: المرجع المذكور، صـ30- 33.
(8) محمود عبد الحليم : الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، جـ 1، دار الدعوة، الإسكندرية، 1978، صـ409- 410.